سحر الجعارة
توجهت باندفاع عكس عقارب الساعة لتلتقى به، كانت تتحدى الجاذبية الأرضية وقانون المسافة، كانت تتحدى حتى نفسها.. لقد فقدت تهور العشاق، وجنون المرأة حين تهوى، وجرأة الدخول فى التجربة.. ورغم المسافة كان أقرب إليها من حبل الوريد.
جاء «مختلفاً».. خجولاً، يتردد فى اقتحام مسام جلدها العطشى للمسة من يديه.. يتمهّل فى رحلة اكتشافها وكأن «النداهة» اختطفته من عالمه وألقت به بين سهل وجبل لا يعرف هل يصعد إلى قمته أم يتأمله عن بُعد!.
وهى «جبارة» اعتادت - من طول الوحدة - أن تكون رجلاً فى جسد أنثى، عنيدة لا تنتمى لرجل لتثبت لنفسها دائماً أنها «حرة».
لكنهما يتحدثان لغة مشتركة، يتقاسمان عشق نفس الأشياء، كلاهما يبحث عن نصف القمر الآخر لتكتمل دورة الضياء.. تنتشلهما من ظلام قبور العشاق.
لم تسأل نفسها، قبل الوقوع فى الأسر، هل ستشعر بالأمان بين جفنيه وتعيش فى ظله.. أم أنه لم يعد يؤمن بالعشق!.
اكتفت بأن ترسمه بالكلمات، أن تجسّده بحروفها، حتى أصبح هو كل أبجديتها.. فكانت تضبط نفسها متلبسة بترديد مصطلحاته، تحارب بسيفه، حتى أفكارها كانت تتقاطع وتتشابك إلى أن تلتقط إحدى مفرداته لتعبّر عن نفسها.. أصبحت مفتونة بتلخيص وجودها بجملة منه أو بشرحه على الورق.
كتبت إليه: أنت بالنسبة لى «فكرة مجردة» شديدة الرومانسية: إنسان مثقف مستنير، مستقل، متمرد على كل السلطات، قلبه مشرع للحب، عاشق للحياة، محارب عنيد.. وأحياناً محروم وحيد!.
كان لا بد أن نلتقى لأطابق الفكرة التى نسجتها من بنات أفكارى بالإنسان.. كنت واثقة فى إحساسى، فى صدق حدسى، لكن الإيمان بفكرة قد يتحول إلى استبداد.
نعم استبدت بى الفكرة، ربما لهذا كان تمثال «فينوس» ناقصاً.. فأحياناً يكون النقصان هو الاكتمال بعينه.
أنا لن أتنازل عن «الفكرة» لأنها ملكى أو لأنها تمتلكنى.. لن أسمح لأحد أن يشوهها.. لن أفقد إيمانى بها: وحدى رأيت النبوءة تتحقق ثم اختطفتها جنيات البحر، وسكنت سحابة بعيدة، حيث تهدهدها الملائكة بعيداً عن واقع لا يعترف بالأساطير ولا يقبل المعجزات ولا يتسع لأحلامى.
أحياناً كان يتنازل عن صلفه وينزل من برجه العالى، يربت على كتفها ويمنحها ضمير الملكية: «حبيبتى»، ثم يضاجع عقلها المتمرد.. أو يأتيها فى هيئة سؤال: لماذا أجّلت إنسانيتك حتى تيبّست؟.. وكانت تهمس بالإجابة: كنت أنتظرك.
ثم يحلق بعيداً.. بعدما يسرق من عينيها بريق الحب ويتركها ذابلة، تنظر فى المرآة بحثاً عن قسمات الاستقلال والكبرياء.. فلا تجد إلا ملامح الهزيمة محفورة على جبينها.. يخنقها صمته الطويل.. لقد بدأ القصيدة ولم يتمها، وترك اللوحة تواقة لنبض ألوانه.. حتى أصبحت «تمثالاً من ثلج» تذوب يوماً بعد يوم.
ظنت أن عشقها الجارف كفيل بإزالة القيود التى يفرضها عليها.. أن حضورها كافٍ لطرد أشباح الأخريات.. أن احتياجها إليه، ضعفها، واستسلامها سيحطم الأسوار العالية التى تفصله عنها.
كانت موقنة أن آلاف النساء يطفن حوله، لكنه ينام وحيداً فى الفراش: إن استحالته سر جاذبيته، وصمته يخفى حزناً دفيناً بين ضلوعه لم يبح به إلا لطير هائم فى السماء!.
نبرة صوته كانت تؤكد أنه عاشق.. كل نقش فى كفه كان يربط عمريهما معاً.. لكنه سقط فى دوامة التردد.. قرر أن يكون «الحياد» سيد الموقف.. وهى لا تقبل بالغرام بديلاً.
كانت تهرب منه: إليه.. فلم تعد تحصى كم قراراً بالفرار من قبضته لم تنفذه، كم مرة اشتعلت حرائق كرامتها وتمردت على الركوع فى محرابه «حاضراً كان أم غائباً».. كانت تستدعيه كلما أرادت، تجسده بخيالها وتنثر بخور أنوثتها عند أقدامه وتنحنى: خذ كل ما لدىّ مقابل لحظة عشق حقيقية.. ثم تعانق تلك اللحظة المؤجلة موقنة أنها ستأتى حتماً.
ظلت تتأرجح بين نوبات الصد والشوق.. حتى أصبحت «أيقونة عشق» فى حالة انتظار: قلبى قابل للكسر، لن يتحمل نزيف الفقد.. لن أصبح لوحة على جدار أنانية رجل.. لن يصلبنى العشق على غلاف كتاب لا يتصفحه كاتبه!.
وحين حانت اللحظة، فاجأها بكلمة عبقرية اختزلت معنى وجودها فانهارت قلعتها الحصينة، وتحررت من أغلالها، ودبّت فيها الحياة بنفخة من روحه..
قال لها: «أنتِ عائلتى».
نقلا عن الوطن