من المنتظر أن تدخل اللغة الفرنسية في الجزائر في منافسة جديدة، حيث أخذت لغة جديدة تشق طريقها في البلاد، إلى جانب اللغة العربية.

 
وهذه اللغة هي الإنجليزية، التي تهيمن على حيز كبير جدا في فضاء الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي يسعى كثيرون من الأجيال الشابة إلى تعلمها وإتقانها لكي يكون لهم مجال لخوض المنافسة مع الشعوب الأخرى، خصوصا الناطقين بالإنجليزية منهم.
 
مفاجأة اللغة الجديدة
 
ويحمل خطاب الحكومة الجزائرية توجها يعكس رغبة حقيقة في تعميم استخدام اللغة الإنجليزية في البلاد، وقد تجلى ذلك خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير، حينما أعطي الضوء الأخضر لتوفير كافة الظروف لفتح أبواب المدرسة البريطانية في الجزائر، كما نص عليه الاتفاق المبرم بين البلدين.
 
ومن المتوقع أن تستقبل المدرسة أول دفعة من المتمدرسين شهر أكتوبر القادم. ويعتبر مؤسس المدرسة البريطانية غراهم ماكفوي أن انشاء ثقافة تعليمية تحتضن أفضل الممارسات الدولية، سيركز أيضا على احترام خصوصية الثقافة الجزائرية، دون أن يُغفل تعليم اللغة العربية.
 
ويرى المراقبون أن هذه الخطوة تعكس التوجه الجديد للجزائر بهدف طويل المدى يرمى لتحرر البلاد من الهيمنة الثقافية الفرنسية، التي تسيطر على معظم القطاعات الإدارية والثقافية والاقتصادية.
 
ولأول مرة منذ الاستقلال استمع الجزائريون إلى وزراء يتكلمون بلغة غير الفرنسية أو العربية، وقد كانت البداية مع وزير الخارجية صبري بوقادوم، الذي تحدث باللغة الإنجليزية خلال ندوة صحفية له على هامش ترؤسه للوفد الجزائري المشارك في الدورة 74 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
 
وتعد هذه سابقة في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، التي ظلت تعرف وزراء لا يتكلمون إلا باللغة الفرنسية ونادرا بالعربية.
 
لغة النخبة الثقافية
 
ولا تزال العبارة الشهيرة التي جاءت على لسان الروائي الجزائري الراحل كاتب ياسين: "اللغة الفرنسية هي غنيمة حرب الجزائر"، واقعة ثقافيا وإداريا في البلد وباتت لغة موليير تشكل جزءا هاما من الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، رغم مرور أكثر من ستين عاما من الاستقلال وسط محاولات التعريب التي قامت بها في سبعينيات القرن الماضي.
 
ويعتبر كثيرون بأن هذا الإرث بقدر ما أكسب الجزائر نخبا ثقافية، تكتب بالفرنسية، ألفت العديد من الأعمال الأدبية التي تصنف في خانة الأدب العالمي المكتوب باللغة الفرنسية، على غرار ياسمينة خضرا وكاتب ياسين ومولود معمري الذي قال يوما :"أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين أنني لست فرنسيا"، إلا أنه أثر كثيرا على مناحي الحياة وعرقل تطور البلاد وعزلها عن العالم بحسب الخبراء.
 
ويرى الباحث بومدين بوزيد أن الجزائر دفعت ثمن ارتباطها باللغة الفرنسية لعقود من الزمن، كما قال لـ"سكاي نيوز عربية": "كان من الممكن عبر الانفتاح اللغوي تدارك التأخر الذي عانت منه البلاد خاصة خلال الثلاثين عاما الماضية"، مشيرا إلى أنها باتت عبئا ثقيلا وتسببت في تخلف إداري وتعليمي، لأن التسيير ركز على حماية المصالح الفرنسية لا أكثر.
 
وعلى عكس السياسية الاقتصادية الصينية التي تعتمد على سياسية الربح والمصالح المالية دون المساس بالجوانب الثقافية، تربط فرنسا اتفاقيتها الاقتصادية بالدول الأفريقية تحديدا بالجانب الثقافي، وقد سعت منذ نهاية الحقبة الاستعمارية لتحول الثقافة الفرنسية إلى وجدان لدى تلك الشعوب يصعب التحرر منه.
 
وبهذا الشكل فإن فرنسا ظلت منذ الاستقلال تنظر إلى انتشار اللغة الفرنسية في الجزائر، كالجندي الأخير الذي يحمي مصالحها الاقتصادية والسياسية بشكل غير مباشر، وعندما اتخذت البلاد قرار تأميم البترول في 24 فبراير 1971، قررت فرنسا معاقبتها من خلال سحب مهندسيها من المنطقة، لكنها في المقابل لم تسحب أي معلم كان يدرس اللغة الفرنسية في الجزائر.
 
ولا تزال الجامعة الجزائرية اليوم تعتمد على اللغة الفرنسية لتدريس التخصصات العلمية كالطب والهندسة والعلوم الدقيقة، حيث يستوجب على الدارس معرفة قوية بتلك اللغة، وهو ما انعكس على أمرين أساسين الأول يتعلق بحظ الطلبة في الحصول على منح دراسية وتكوين أعلى في الخارج بعد التخرج، والثاني يرتبط مباشرة بالإدارة وتسيير المؤسسات الاقتصادية كشركة العامة لأبحاث وانتاج ونقل وتحويل وتجارة الهيدروكربونات "سوناطراك"، التي تعتبر عصب الاقتصاد الجزائري، حيث لا يمكن لأي مهندس لا يتقن اللغة الفرنسية إيجاد فرصة للعمل فيها.
 
الفرنسية بين الرفض والقبول
 
وتدرك وزارة التعليم العالي حاجة الجامعة إلى اللغة الإنجليزية للحصول على مراتب متقدمة في ترتيب الجامعات العالمية، وقد تحدث وزير التعليم العالي والبحث البحث العالمي السابق شمس الدين شيتور على أهمية اللغة الإنجليزية، مشيرا إلى أن مشكل أطروحات الدكتوراه يكمن في اللغة، وحث على ترجمة الأطروحات إلى اللغة الإنجليزية خاصة في مجال الاقتصاد والعلوم الإنسانية.
 
ورغم تلك العلاقة الوطيدة التي تربط الجزائر باللغة الفرنسية، إلا أن الملفت للانتباه هو عدم انخراطها في المنظمة الدولية للفرانكوفونية التي أسستها فرنسا عام 1970 وتضم الدول التي تعتبر فيها الفرنسية لغة رسمية أو لغة منتشرة.
 
ورغم مغازلات هذه الأخيرة للجزائر عدة مرات باعتبارها أهم بلد عربي يتكلم سكانها اللغة الفرنسية حيث يوجد أكثر من 10 ملايين جزائري يستطيعون القراءة والكتابة بالفرنسية، إلا أن الجزائر رفضت الانخراط في المنظمة بدوافع سياسية وتاريخية.
 
 ويرى المراقبون أن هذا النوع من المراوغة يعكس "الفنتازيا" التي كانت تمارسها السياسية الجزائرية، فقد خلق اعتماد السلطة على اللغة الفرنسية في خطابها ومراسلتها نوعا من الحساسية لدى الشعب، ومؤخرا طالب الحراك الشعبي بتحرير البلاد من كل أشكال التبعية للمستعمر القديم وخاصة اللغة، وكانت الحكومات السابقة تتحفظ على مطلب التدريس بالإنجليزية بدلا من الفرنسية.
 
وطرح موضوع استبدال التدريس بالفرنسية إلى الإنجليزية لأول مرة للنقاش في الجزائر مطلع التسعينيات، وتم التحضير للمشروع من خلال تكوين ألفي معلم بالتعاون مع الحكومة البريطانية، لكن الخطوة تم إجهاضها وكانت إحدى أسباب تقديم وزير التربية الأسبق علي بن محمد لاستقالته بعد فضيحة تسريب أسئلة البكالوريا.
 
التحرر من الفرنسية
 
ويبدو الجيل الجزائري الجديد، أكثر تحررا من قيود التعامل باللغة الفرنسية بفضل استخدام التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي وذلك بخلاف الأجيال القديمة خاصة تلك التي تتلمذت خلال الحقبة الاستعمارية، وهم جيل يصعب عليهم اليوم التحرر من قيود تلك اللغة في تعاملاتهم الإدارية بحسب المراقبون.
 
ورغم كل تلك الخطوات التي قد تعكس رغبة حقيقة في التحرر من ميراث المستعمر الملغم، إلا أن السؤال المطروح حسب المترجم والكاتب الجزائري محمد ساري يكمن في مساهمة الجزائريين في نشر اللغة الإنجليزية.
 
وقال ساري لـ "سكاي نيوز عربية": "الإشكالية في الاستفادة والإفادة، فقد ساهم الباحثون والكتاب الجزائريون في إثراء اللغة الفرنسية وتطوريها بكتاباتهم وأفكارهم، فماذا سنقدم للغة الإنجليزية من إبداع حتى يعرفنا العالم من خلالها؟"
 
ويعتقد الباحث ورئيس المجلس الأعلى للآداب الفنون أن الأهم من الحديث عن التوجه إلى اللغة الإنجليزية هو الاهتمام بـاللغة العربية التي لا تزال تعاني هي الأخرى رغم المجهودات المبذولة لتطويرها في البلاد.