د. مراد وهبة
غادر دنيانا في 24 فبراير من هذا العام فيلسوف كندا ماريو بونجى وعمره مائة عام. أرجنتينى الأصل، إذ وُلد في بيونس أيرس عاصمة الأرجنتين في 21/9/1919 وتخصص في الفيزياء النووية ثم أصبح أستاذاً في الفلسفة و الفيزياء في عدة جامعات إلى أن استقر في جامعة مكجل بمونتريال بكندا في عام 1966 وهى من أشهر الجامعات على كوكب الأرض. ثم نشر فلسفته في ثمانية مجلدات بها نظرياته في الوجود والمعرفة والحقيقة والأخلاق بوجه عام وفى النتائج الفلسفية لنظرية أينشتين في النسبية بوجه خاص مع بلوغه سن الثامنة والتسعين. وهو في كل ذلك يعبر عن رسالته في الحياة التي تدور حول مشروع التنوير في الفلسفة والعلم من أجل تقدم البشرية.
ومن هنا كان اللقاء بيننا فدعوته للمشاركة في مؤتمر فلسفي دولي عقدته في القاهرة في عام 1980 تحت عنوان وحدة المعرفة وكان عنوان بحثي ثلاثية العلم وكنت أقصد بها الوحدة التي تؤلف بين الفلسفة و الفيزياء و السياسة . الفلسفة بمعنى أنها الوحدة الكلية للمعارف التي تستند في تحقيقها إلى الفيزياء و السياسة . و الفيزياء من حيث هي موحدة للعلوم الطبيعية والرياضيات. و السياسة ، بمعنى أن الإنسان من حيث هو حيوان عاقل مردود إلى أنه حيوان اجتماعي، وهو من حيث هو كذلك فإنه يكون - بالضرورة - حيوانا سياسيا.
ولا أدل على ذلك من أن الفيزياء في الحرب العالمية الثانية كانت في قبضة سلطة سياسية غايتها صناعة القنبلة الذرية من أجل إنهاء الحرب. وإثر الانتهاء من إلقاء بحثى إذا ب ماريو بونجى يسرع في معانقتى مهنئأ.أما أنا فقد عرفت سبب هذا العناق وهو أن بونجى نفسه قد شعر بأنه المقصود بهذا البحث الذى انتهيت منه إلى بزوغ الفيزيائى السياسي، لأن بونجى لم يكن مجرد فيلسوف أو عالم فيزياء أو هما معاً، إنما كان أيضاً مناضلاً سياسياً ينشد من نضاله أن يكون مشاركاً في تحرير الشعوب المقهورة. ومن هنا انتخبنا أعضاء في الأكاديمية الدولية للنزعة الإنسانية. أما أكاديميتنا فقد تأسست في عام 1983 لبث المُثل الإنسانية في العالم. وكان عدد الأعضاء في البداية ثلاثين ثم اكتفت بعد ذلك بستين من كبار الفلاسفة والعلماء والسياسيين، وكانت نشأتها في ذلك العام بمناسبة مرور خمسمائة عام على نشأة محاكم التفتيش وثلاثمائة وخمسين عاماً على محاكمة جاليليو بسبب تأييده ل نظرية كوبرنيكس عن دوران الأرض حول الشمس. ومن هنا كان تركيز الأكاديمية على أهمية البحث الحر ضد المؤسسات الدينية والسياسية التي تتسم بمراقبة هذه الحرية وقهرها. والأكاديمية في هذا البحث الحر محكومة بمستقبل البشرية وليس بالتراث المتزمت العاجز عن مواجهة قضايا العصر.في هذا السياق تعددت اللقاءات بيننا.
وكان في مقدمها ذلك اللقاء التي تم لأول مرة في المؤتمر الدولي الفلسفي الذي عقدته في القاهرة في عام 1980. وفى عام 1983 دعوته لإلقاء أربع محاضرات في كلية التربية التي أعمل بها، وقد كان إذ ألقاها ابتداء من 17 ديسمبر من ذلك العام. وفى محاضرته الثانية وعنوانها الأيديولوجيا والعلم« ألقاها بحضور رئيس وأعضاء قسم الفيزياء . وإثر الانتهاء من المحاضرة وبداية الحوار كان أول المعقبين رئيس القسم وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة موسكو وإذا به يتهم بونجى بأن نظرياته العلمية كلها فاسدة لأنها ليست مأخوذة من القرآن ثم راح يعدد الآيات التى وردت فيها كلمة ذرة مع مطلب منه بأن أترجم هذه الآيات ولكنى لم أجرؤ، فوبخنى بحدة. ولم يتردد بونجى في الرد بلا تحفظ لأنه وجد نفسه أمام أصولى وليس أمام باحث في العلم، إذ من رأيه أن كلا من العلم والدين يستبعد الآخر. فالعقيدة هى التى تربط المؤمنين، والبحث عن المعرفة هو الذى يربط العلماء. والمعرفة تنطوى على نسق وقيم.
وهذا النسق ينطوى على سمات منطقية مثل الدقة والوضوح والاتساق وتطابق الأفكار مع الوقائع. واللافت للانتباه هنا أن رئيس القسم واحد من الذين ذهبوا إلى موسكو للحصول على درجة الدكتوراه من الإخوان المسلمين، أما الذين ذهبوا إلى أمريكا من المتخصصين في التربية فقد عاد أغلبهم ومعهم عميد أساتذة التربية جون ديوى العلمانى بعد أن حولوه إلى أصولي. وبناء عليه فأنا أنصح بتوطين البحث الأكاديمى في جامعاتنا المصرية مع استدعاء كبار الفلاسفة والعلماء في الجامعات الغربية إلى جامعاتنا محاضرين ومشرفين على رسائل الماجستير والدكتوراه من أجل أن تكون علمية وليست إخوانية.
نقلًا عن الأهرام