فاروق عطية
بعد أن أنشأ المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد العليا وأرسال البعثات للدول الأوروبية المتقدمة تكنولوجيا، اتجه تفكير محمد علي باشا إلي تنمية الاقتصاد القومي كي يحقق لمصر استقلالها السياسي. ولإنماء ثروة البلاد وتقوية مركزها المالي، عمد إلى تنشيط النواحي الاقتصادية لمصر، واستخدم لتحقيق ذلك عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين عملوا في تلك المجالات بالسخرة.
في المجال الصناعي تبني محمد علي باشا السياسة التصنيعية لكثير من الصناعات كقاعدة صناعية لمصر، ولتوفير احتياجات الجيش في المقام الأول، فأنشأ مصانع للغزل والنسيج ومصنعا للجوخ في بولاق ومصنعا للحبال اللازمة للسفن الحربية والتجارية ومصنعا للأقمشة الحريرية وآخر للصوف ومصنعا لنسيج الكتان ومصنع للطرابيش في فوه، ومعمل سبك الحديد ببولاق ومصنع ألواح النحاس لتبطين السفن، ومعامل لإنتاج السكّر، ومصانع النيلة والصابون ودباغة الجلود برشيد، ومصنعا للزجاج والصيني ومصنعا للشمع ومعاصر للزيوت. كما كان لإنشاء الترسانة البحرية دورًا كبيرًا في صناعة السفن، ومصانع الحصير وكانت هذه الصناعة منتشرة في القرى إلا أن محمد علي إحتكرها وقضي على هذه الصناعات الصغيرة ضمن سياسة الإحتكار وقتها، وأصبح العمال يعملون في مصانع الباشا، وكانت الحكومة تشتري غزل الكتان من الأهالي، وكان يتولى إدارة هذه المصانع الجديدة يهود وأقباط وأرمن، ثم لجأ لإعطاء حق امتياز إدارة هذه المصانع للشوام، والمنسوجات تباع في وكالاته (كالقطاع العام حاليا)، وكان الفلاحون يعملون بالسخرة في هذه المصانع، فكانوا يفرون وتقبض عليهم الشرطة ويعيدونهم للمصانع ثانية، ويحجزونهم في سجون داخل المصانع حتي لايفروا، وأجورهم متدنية للغاية وتخصم منها الضرائب. كانت الفتيات تجندن للعمل بهذه المصانع وكن يهربن أيضا. امتد احتكاره ليشمل الصناعات الوطنية القديمة، وكان يطلق علي الاحتكار الحكومي للصناعات لفظ "تحجير"، ويشمل التحجير عدة عناصر رئيسية أبرزها اختيار سلعة شائعة الاستعمال، واحتكار البيع بسعر يحدده المندوبون الحكوميون، وجميع منتجي تلك السلعة والمتّجرين بها في كل مدينة على صعيد واحد حتى يمكن إحكام المراقبة واجتناب الهرب وارغام مشايخ القرى والبلدان على شراء حصة من الإنتاج بالثمن المحدد.
وفي المجال الزراعي قام محمد علي باشا في خلال فترة لا تتعدي الستة سنوات بتغيير أوضاع الزراعة والملكية الزراعية تماما، قام بإلغاء نظام الالتزام عام 1808م الذي كان رمزاً للظلم الإجتماعي والإقتصادي الذي مارسه الملتزمين ضد الفلاحين. وصادر الأراضي الزراعية، ثم أقتطعها لأفراد أسرته وخاصته وكبار موظفيه من أكراد وشركس وأقباط وشوام، فوضع بذلك أساس الإقطاع الزراعي الذي ساد مصر بعد ذلك. كما قام بمصادرة أراضي الملتزمين وسجلها باسم الدولة، كما ضبط أراضي الأوقاف لصالح الدولة، وكذلك المساحات التي عجز أصحابها عن إثبات حيازتهم لها وقام بتوزيع مساحات تلك الأرض علي الفلاحين بحيث خصص لكل أسرة ما بين 3-5 أفدنة حسب قدرة كل منها، و ذلك للانتفاع بها بشرط دفع ما تقرره الحكومة من ضرائب و أموال، ولا تنزع منه إلا إذا عجز عن دفع ما عليه. كما قام بتطوير الزراعة عن طريق إحلال أساليب زراعية جديدة من شأنها زيادة الانتاج و تقليل الجهد، كما اهتم بالريّ وشق العديد من الترع وشيّد الجسور والقناطر. قام بإنشاء القناطر الخيرية التي نتج عنها تحويل أراضي الوجه البحري إلي ري دائم، واستقدم مدربين مهرة من الدول المتقدمة زراعيا، وكذلك اهتم بالتعليم الزراعي باستقدام الخبراء الزراعيين من الخارج وأنشأ مدرسة للزراعة. وفي عام 1812م بدأ الاحتكار الحكومي لتجارة المحاصيل الزراعية ومصادرة اية كميات منها تباع خارج الأقنية الحكومية، وصارت الدولة تشتريها من المزارعين بأسعار احتكارية ثم تبيعهم حاجتهم منها بأسعار أعلى. ثم تقوم بتوريد جزء منها لمصانعها و أسواقها و جزء آخر للوكلاء الأوروبيين تمهيداً لتصديرها للخارج.
وسع محمد علي باشا نطاق الزراعة بتخصيص نحو 3,000 فدان لزراعة التوت للاستفادة منه في انتاج الحرير الطبيعي، والزيتون لانتاج الزيوت، كما غرس الأشجار لتلبية احتياجات بناء السفن وأعمال العمران. وفي عام 1821م أدخل زراعة صنف جديد من القطن يصلح لصناعة الملابس، بعد أن كان الصنف الشائع لا يصلح إلا للاستخدام في التنجيد، والفائض منه بُدئ في تصديره منذ عام 1627م. بدأت زراعة نوع جديد من الفاكهة على يد أحد الطلبة ويدعى يوسف أفندي، المبتعث إلى فرنسا، حين عودته إلى مصر مع رفقائه هبت ريح شديدة، سببت إقامته نحو ثلاثة أسابيع في جزيرة مالطا، وفي تلك المدة رست سفن حاملة أشجارا مثمرة من الصين واليابان، فاشترى منها يوسف أفندي ثمانية براميل بها شجر المندرين المثمر. عندما وصل يوسف إلى الإسكندرية وجاء وقت مقابلة محمد علي باشا أحضر معه بعضا من تلك الفاكهة، وعندما تناولها محمد علي باشا أعجبته وقرر إطلاق اسم يوسف أفندي عليها وأمر بزراعة هذه الفاكهة الجديدة في حديقة قصر شبرا، فعُرفت منذ ذلك الحين باليوسف أفندي (اليوستفندي أو اليوسفي).
وفي المجال التجاري احتكر محمد علي تسويق الحاصلات الزراعية في الداخل. و في مجال التجارة الخارجية قامت الدولة بالبيع للتجار الأجانب لتصديرها لحساب الحكومة بواسطة وكلاء في الموانئ الأوروبية. فقد اتسع نطاق تجارة مصرالخارجية بعد أن ازدادت حاصلات مصر الزراعية وخاصة القطن. كما لعب إنشاء الأسطول التجاري وإصلاح ميناء الإسكندرية وتعبيد طريق السويس- القاهرة وتأمينه لتسيير القوافل، دورًا في إعادة حركة التجارة بين الهند وأوروبا عن طريق مصر، فنشطت حركة التجارة الخارجية نشاطًا عظيمًا. كان محمد علي باشا لا يشجع الاستيراد كثيراً، إذ كان يري كما شاهد في أوروبا قبل مجيئه إلي مصر أن الدولة القوية هي التي تزيد صادراتها عن وارداتها، في عام 1836م بلغت قيمة الصادرات 2,679,000 جنيه والواردات 2,196,000 جنبه.
وفي المجال الإداري حكم محمد علي مصر حكمًا أوتوقراطيا (حكما فرديا)، مع ميل لاستشارة بعض المقربين قبل إبرام الأمور، إلا أنه اختلف عن الحكم الاستبدادي للمماليك في أنه كان يخضع لنظام إداري بدلاً من الفوضى التي سادت عصر المماليك. فقد أسس محمد علي مجلسًا حكوميًا عرف باسم "الديوان العالي" مقره القلعة يترأسه نائب الوالي، ويخضع لسلطة هذا الديوان دواوين تختص بشؤون الحربية والبحرية والتجارة والشؤون الخارجية والمدارس والأبنية والأشغال. كما أسس مجلسًا للمشورة يضم كبار رجال الدولة وعدد من الأعيان والعلماء، ينعقد كل عام ويختص بمناقشة مسائل الإدارة والتعليم والأشغال العمومية. وفي عام 1837م، وضع محمد علي باشا قانونًا أساسيًا عرف بقانون "السياستنامة"، يحدد فيه سلطات كل ديوان من الدواوين الحكومية.
قسّم محمد علي باشا مصر إلى سبع مديريات أربعة في الوجه البحري، الأولى ضمت "البحيرة والقليوبية والجيزة"، والثانية ضمت "المنوفية والغربية"، والثالثة الدقهلية، والرابعة الشرقية. وواحدة في مصر الوسطى وشملت "بني سويف والفيوم والمنيا". وإثنان في صعيد مصر، الأولى من "جنوب المنيا إلى شمال قنا"، والثانية من "قنا إلى وادي حلفا". إضافة لخمس محافظات وهي القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس.
ولتحديث الوضع المالي للدولة ألغى محمد علي باشا نظام "الالتزام" الذي كان يسمح "للملتزمين" بدفع حصص الضرائب على بعض القرى ويخوّل لهم جمعها بمعرفتهم، وكانوا عادةً ما يجبون تلك الأموال بقيمة أكثر مما دفعوه مما كان يرهق المزارعين. إلا أنه استبدل هذا النظام بنظام "الاحتكار" الذي جعل منه المالك الوحيد لأراضي القطر المصري، وبذلك ألغى الملكية الفردية للأراضي. كما أجهد الشعب بالضرائب التي كان يفرضها على الشعب كلما احتاج لتمويل أي من حملاته أو مشاريعه دون نظام محدد، شملت تلك الضرائب: الضرائب المفروضة على الأراضي والمزروعات والأفراد والماشية. وكما احتكر الأراضي والزراعة احتكر أيضًا التجارة والصناعة، مما جعل منه المالك الوحيد لأراضي مصر، والتاجر الوحيد لمنتجاتها، والصانع الوحيد لمصنوعاتها.
اهتم محمد علي باشا أيضا ببعض النواحي العمرانية التي تخدم دولته الناشئة، فأسس المدن مثل الخرطوم وكسلا بالسودان، وأقام القلاع للدفاع عن الثغور وعاصمة البلاد، كما شيد فنارا لإرشاد السفن في رأس التين بالإسكندرية. وعني أيضًا ببناء القصور ودور الحكومة، وأنشأ دفترخانة لحفظ الوثائق الحكومية، ودار للآثار بعدما أصدر أمرًا بمنع خروج الآثار من مصر، وعبّد الطرق التجارية ونظّم حركة البريد وجعل له محطات لإراحة الجياد.
إجتماعيا، تدرّج المجتمع في عهد محمد علي باشا إلى عدة طبقات اجتماعية أعلاها الطبقة الحاكمة التي ضمت أسرته وكبار رجاله وموظفي الدولة من المتعلمين في المدارس والمبتعثين للخارج، ثم طبقة العلماء والأعيان، فالمزارعين وعمال النصانع والعربان، والرقيق من اليونانيين الذين أسروا في حرب المورة والجواري الشركسيات والحبشيات والسودانيات اللاتي كن يخدمن في بيوت الأثرياء. وقد ارتفع تعداد السكان في عهده من 2,514,400 نسمة عام 1823م، إلى 4,476,440 نسمة عام 1845م.