27 ـ لنعرفه
كمال زاخر
ما أظن أن ما يحدث بين الفرقاء فى الكنيسة صراعٌ لاهوتي فى أغلبه، فكثيره له مآرب أخرى، وحتى فيما يتعلق بالجدل الفكرى ما أظنه واقعياً ذلك لأن قواعد القياس غائبة، فعلام نقيس هذا التعليم أو ذاك؟، هل لدينا مجموعة قانونية لمعتقدات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يمكن أن نسميها دستور إيماننا؟، لدينا مراجع ولدينا اتفاق عام علي العقائد الأساسية لكنها متفرقة بين الكتب والوثائق والمخطوطات، وبعضها يحتاج إلى تحقيق علمى تاريخى ولاهوتى، خاصة المتأخر منها، والذى حملته إلينا قرون التدوين بالعربية.
وقد أشرنا قبلاً إلى الجهود المضنية التى قام بها الرواد المحدثون عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، وتجاربهم المؤسِسة، وكانت الملاحظة أن نجاحها كان مرتبطاً باتفاق ارادات الإكليروس والعلمانيين، ومقارنة تجربتى مدارس الأحد والمجلس الملى تقولان بهذا، فقد انطلقتا فى نطاق زمنى متقارب، وجاءت مبادرتهما من أراخنة أفاضل لهم خبراتهم المقدرة، وكان البابا المعاصر لهما واحداً، لكن الأولى، مدارس الأحد، وجدت دعماً واحتضاناً، من قداسته، رغم مقاومة قاعدة عريضة من الكهنة، فنمت باضطراد حتى جلست على الكرسى البابوى، بعد نصف قرن من انطلاقها، بينما الثانية، المجلس الملى، لم تحظ بالقبول، لولا فرضها بقرار عال من الدولة، وتوارثت الرفض والمقاومة بامتداد عمر التجربة مع تعدد الآباء البطاركة، حتى أنها جُمدت فى حبرية قداسة البابا كيرلس السادس، وعادت منزوعة الصلاحيات بفعل تدخلات سياسية سابقة فى الحقبة الناصرية، ليصبح المجلس كياناً بلا فاعلية فى حبرية قداسة البابا شنودة الثالث، ومازال أمره معلقاً حتى اللحظة.
لهذا فالكنيسة بحاجة إلى مبادرة مجمع الأساقفة والنخبة المتخصصة من العلمانيين بالعكوف على ترتيب ورش عمل تضع اطار فكرى لدستور ايمانى موثق، يبدأ بما أقترحناه قبلاً "المجمع المرقسى الأول" على غرار المجمع الفاتيكانى الثانى، يسبقه تنظيم لجان تحضيرية رفيعة المستوى، تنتهى إلى جدول أعمال المجمع، يتناول المحاور الرئيسية للعقائد ومراجعها ووثائقها، وتوفيرها من مصادرها، اليونانية والقبطية والعربية، وتحقيق ما يحتاج منها إلى تحقيق، ونوطن أنفسنا على أن هذا الأمر، بدءاً من الأعمال التحضيرية وحتى صدور دستور العقائد، قد يمتد إلى عدة سنوات، وهو يستحق، وفى مسيرة الضبط والتصحيح نكتشف أن الأمر نفسه يشمل دستور الطقوس وتنقيتها من مدخلات عصور التراجع، والتى لا تختلف كثيراً عنها فى دائرة العقائد.
يبقى شخص المسيح يسوع هو المسيحية ذاتها، فهو الذى أعلن لنا سر الآب، وأدخلنا فى شركة الثالوث، ووهبنا الحياة الأبدية، فبغيره تصبح المسيحية ـ إن وجدت ـ مجرد مجموعة من القيم الأخلاقية التى يمكن أن نجدها فى غيرها، وربما نجد ما يوازيها وأكثر فى تجمعات لا دينية، وتتحول العبادة إلى فروض وممارسات تطلب لذاتها، فنجتهد فى تدقيقها بضمير مثقل بمحاذير المخالفة، وتتلبسنا الإزدواجية بين ما نقول به وما نعيشه، نرسم صورة التقوى وننكر قوتها. ربما فى هذا نجد تفسيراً لإغراقنا فى الشكل، وتصير التراتبية هدفاً، يتراجع المسيح وتتقدم الذات، ويختطف البعض نصاً كتابياً فى اجتزاء متعمد " فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ "(ملاخى 1)، بينما رب المجد يصحح هذا المفهوم فى واقعة أعقبها بتوجيه "قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا.... فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا." (يوحنا 13).
كان الإتضاع وكانت المحبة هما الدافعان لكل معاناة السيد فى تدبير الخلاص، وكان الكبرياء وكانت الذات وراء كل رفض لقبول هذا التدبير، فالذين ذهبوا إلى تأويل التجسد بعيداً عن حقيقته التى جمعت الطبيعتين، الإله الكامل والإنسان الكامل، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا ابتلاع أو ذوبان ولا تغيير، فى المسيح يسوع، والذين رفضوا مساواته للآب فى الجوهر وكونه واحداً فيه، والذين رفضوا استحقاقاتنا التى صارت لنا عبر التجسد، لم يدركوا، ولم يختبروا تلك المحبة وذاك الإتضاع، لأنهم لو قبلوا بهما لصاروا ملزمين بالتخلى عن كل مجد اغتصبوه وكل كرامة اختطفوها لذواتهم فى مواقعهم المتقدمة. وما الهرطقات فى الدائرة الكريستولوجية إلا تنويعات على تصدى الذات والكبرياء لفهم التجسد، واستيعابه، وقد نجد فى اقترابنا من الرجل الذى تصدى لهذه المدرسة فى بداياتها، ق. اثناسيوس الرسولى، وهو بعد شماس وشاب غضاً، أهمية التكوين الذهنى والقلبى عنده، فلم يكن تعرفه على شخص الرب يسوع المسيح مدرسياً، فقد عاش الليتورجيا وخبرها، فتكشفت له من خلالها ملامح رب المجد المتفرد، كانت الخيوط تتجمع لتشكل وجدانه ورؤيته، فقد تربى فى وسط تَقَوّى فى بيت كهنوتى ـ بمعطيات زمانه ـ واحتضنه صبياً وشاباً البابا البطريرك ق. الكسندروس، صاحب البصيرة النافذة، وكانت خطوطه موصولة مع مؤسس الرهبنة، ق. انطونيوس، فكانت سياجات النسك تحميه من صلف المعرفة المجردة، كانت مكتبة الأسكندرية تمده بالزخم الآبائى، وبين المعرفة والإختبار ودفء الليتورجيا وتهذيب النسك وقدوة الآباء وتلمذته عليهم، تشكلت ذهنية ق. اثناسيوس، فكان مدخله لمعرفة كنه الرب يسوع المسيح هى المحبة، وقد وصفه أحد الباحثين الذين تعمقوا فى سيرته "احب اثناسيوس المسيح فعقله، بينما حاول آريوس أن يعقل المسيح فلم يسعفه عقله لذا لم يستطع أن يدرك طبيعة الإله المتجسد، ومن يتوفر على كتابات ق. اثناسيوس ورسائله يلمس هذا التوجه بقوة.
ولعل السؤال الوجوبى ونحن نعيش مناخ تتوفر لنا فيه كل هذه المعطيات؛ فالمعرفة صارت متاحة بما لم يتح لأجيال عديدة سبقتنا، عبر قنوات مبهرة، ما بين تقنيات طباعة متقدمة وإخراج فنى مبهر، وبين فضاء رقمى الكترونى يجعل البحوث والكتب اللاهوتية رهن ضغطة على لوحة مفاتيح الوسائط الإلكترونية التى صارت "فى كل يد"، والإجتماعات الكنسية بتنويعاتها ومؤتمراتها تغطى الإسبوع بجملته، والفضائيات المسيحية دخلت كل بيت، لماذا صرنا "محمولين على كل ريح تعليم؟"، ولماذا صارت الهشاشة تحتل ذهنية كثيرين؟، ولماذا تراجع التعليم اللاهوتى ليحتل مكانه التعليم الإجتماعى والغيبى وفى بعضه التعليم بالخرافة؟، وفى جسارة احتل القديسون ـ رغماً عنهم ـ مكان المسيح!!، هل هو الخواء الفكرى والخوف من الوقوع فى محاذير تحيط بمن يتصدى للتعليم؟، ربما نجد تفسيراً إذا اقتربنا من آليات التكوين التعليمى؛ الإكليريكية والأديرة. بغير أن نستنفر ذهنية الدفاع وجدل عقيم نطارد به كل من ينبه لحتمية المراجعة والتقييم والتقويم، فمن الثمر تعرف الشجرة.
اللافت أن الكنيسة وفرت لنا زاداً لاهوتياً لا ينقطع فى قراءات القطمارس اليومية والموسمية، والتى رتبت برؤية مبدعة تكفى وحدها وجبة دسمة تشير بإلحاح إلى الطعام النازل من السماء المن العقلى الذى لا يفسد، وعندما نصغى بوعى إلى صلوات الكنيسة، وبخاصة فى وليمة الإفخارستيا، الحضور الدائم لله وسط شعبه، نكتشف أنها ترجمة حياتية موقعة على كلمة الحياة، التى تبنى وتصون وتبكت وتقودنا لشركة حقيقة مع المسيح وفيما بيننا، لنصر ونحن اعضاء كثيرون جسداً واحداً رأسه المسيح.
ومازالت اذكر وأنا بعد صبى صغير كيف كانت الليتورجيا المدرسة التى قادت قدماى للكتاب المقدس، قبل أن افتح صفحاته والهج وراء حكاياته، وعندما صرت شاباً كانت مدرستى ملاصقة للبطريركية المرقسية وقت البابا القديس كيرلس السادس، وكانت اسئلتى لا تتوقف وكانت اجاباته مقتضبة، كلها كانت من صلوات الكنيسة، لكنها تحمل ما لا تقدمه كتب وعظات مسهبة، وعندما تعرفت على كتب الأب متى المسكين، كان فى كنيستنا ـ مارجرجس بالقللى ـ كاهنٌ متقدم فى الأيام، ابونا يوحنا عبد المسيح ابادير، يمكن أن تصفه بفلاح الكتاب المقدس، يجوس فى صفحاته بمحراث يقلب أرضه المباركة، كانت جلساتى إليه شبه يومية، وسؤاله اليومى، قريت إيه النهاردة؟، وكانت اجابتى المتكررة فى كتاب كذا لأبونا متى، يطلب إلى أن آتى له بهذا الكتاب، اقرأ عليه بعض من سطوره، يستوقفنى، عارف دى جابها منين؟، افتح اشعيا .. او رسالة بولس الفلانية ... أو المزامير، ويفتح كنوزه ويخرج منها ما يجعلنى لا انتبه إلى أن الليل انتصف، ما بين ابونا متى وأبونا حنا (هكذا كنا نناديه) بدأت فى اكتشاف شخص المسيح، وبدأت اتذوق حلاوة كنيستنا التى لن تسترد مجدها إلا باسترداد وعيها اللاهوتى فى تعليمها المعاصر الذى يتأسس على معرفة شخص ربنا يسوع المسيح حجر زاوية ايماننا، والذى يلتقينا يومياً على المذبح، بينما الشماس ينبهنا "فلنقف حسنا، لنقف بتقوى، نقف باتصال، نقف بسلام، نقف بخوف الله ورعدة وخشوع. أيها الإكليروس وكل الشعب بطلبة وشكر بهدوء وسكوت ارفعوا أعينكم إلى ناحية المشرق لتنظروا المذبح وجسد ودم عمانوئيل إلهنا موضوعين عليه.".
الكنيسة تدعونا لأن نعرفه .. ذاك الذى أخذ الذى لنا وأعطانا ـ حقيقة لا مجازاً ـ الذى له.