د. أحمد الخميسي
لا أتخيل أبدا مبلغا أكبر من عشرة آلاف، أما علاقتي بالمبالغ القليلة فهي علاقة وثيقة وعشرة عمر. أحاول أن أستعيد وضع الفلوس في حياتي، حركتها، تطور علاقتي بها، أما عن علاقتها هي بي فكانت ثابتة، كأنها جدار لا يتزحزح. في طفولتي كانت خمسة قروش بالضبط تغمرني بسعادة غير محدودة، بقرشين أشرب عصير وآكل سندوتش وبالقروش الثلاثة أدخل السينما " ترسو".
وللحصول على ذلك المبلغ –ونحن ستة أخوة – كنت أربط على خصري إبريقا أملأه عسلا وماء، وأسرح به بين أخوتي أبيع لهم ما أسميه أنا " عرقسوس"، ويرتضون هم بحكم القرابة أنه عرقسوس.
ذلك كان أول بيزنس تجاري في حياتي. وإلى ما قبل الشهادة الثانوية كنت أعتمد تماما على ما تجود به أمي أو والدي من مصروف، مرة يكبر، ومرة يصغر، وعشرات المرات يختفي. أذكر في أول علاقة حب أنني تعذبت طويلا بسبب رغبتي في دعوة فتاتي إلى كازينو على النيل.
كم تتكلف المشروبات؟. ظللت أحوم حول الكازينوهات حتى قررت أن أدخل واحدا منها وأطلب مشروبا فأعرف بذلك كم يكون سعر المشروبين لي ولها. وقد فعلت.
تكلف المشروبان حوالي ثلاثين قرشا، وكان المبلغ في جيبي قبل أن ندخل المكان، وكنت أتحسسه طول الوقت خشية أن يثب من جيبي أو يضيع فأجدني في ورطة وفضيحة بدلا من دور الفارس العاشق.
وعندما عملت في مجلة الاذاعة والتلفزيون عام 1965 في ما يسمى " الديسك"، تلقيت لأول مرة في تاريخ حياتي نحو ثلاثة عشر جنيها كاملا. أذكر أن أول ما قمت به حين أمسكت النقود أنني اتجهت إلى محل صاغة واشتريت خاتما من الذهب لأمي وطلبت من الصائع أن ينقش عليه " أحبك. أحمد"، وظلت أمي محتفظة به حتى وفاتها.
وحين شاع في العائلة أن أحمد الخميسي – عقبال عندكم - تعين وصار يقبض راتبا أدهشني الزيارات العائلية التي راحت تتدفق علينا فجأة، فهذه خالتي تأتي ومعها بناتها يجلسن بأدب، ويختسلن نظرات مستحية إلي، ثم تبدأ خالتي في امتداح بناتها ومهارة بناتها في الطبيخ، ثم تأتي عمتي، ثم عائلات الجيران! كل ذلك بثلاثة عشر جنيها فقط لا غير! وبفضل ذلك المبلغ صرت نجما لامعا يشار إليه بالبنان وتسعى العائلات الكريمة لخطب وده.
ولكي تعرف قيمة ذلك الراتب، فإن ايجار الشقة الجميلة لم يكن ليزيد عن أربعة جنيهات! ثم تركت المجلة ذات يوم، ببساطة خرجت في موعد الانصراف ولم أعد إلى المجلة قط ! وانتقلت للعمل في منظمة التضامن مع الأديب يوسف السباعي بنفس الراتب، وكنا هناك ثلاثة : أنا، وأحمد فؤاد نجم، وأمل دنقل. وكنا إذا ظهرنا يوما في العمل اختفينا عشرة أيام، حتى ضج السباعي منا واتفق معنا أنه سيحاسبنا على أيام الحضور فقط.
وكان يوم الحضور يساوي نحو نصف جنيه بحاله. وهكذا كنت إذا أردت شراء قميص بحوالي جنيهين أداوم على العمل أربعة أيام ثم أنقطع! وعندما سافرت للخارج لأدرس في موسكو ظللت زمنا طويلا أعيش على ملاليم، حتى أصبحت مراسلا لجريدة الاتحاد الاماراتية، وللمرة الأولى صرت أقبض نحو ألف دولار شهريا، كنت أدفع منها أربعمائة ايجار شقة صغيرة جدا، عبارة عن صالة ضيقة ومطبخ، وكان مكتبي في المطبخ، حتى أن الصديق العزيز الراحل أبو بكر يوسف حين كان يزورني كنت أقول له : " تعالى معي إلى المكبخ ، لأنه مكتب ومطبخ". وظللت أدخر من ذلك المبلغ لأشتري شقة في القاهرة وما إن فعلت حتى رجعت إلى القاهرة أكتب وأنشر بلا توقف مجانا أو تقريبا مجانا. والآن حين أتذكر وضع الفلوس في حياتي أتذكر كل أوهامي الجميلة عن الحب، الأوهام التي لا تتحقق في الواقع، هكذ كانت علاقتي بالفلوس، أتخيلها، أكن لها بالغ التقدير، أهيم بقدراتها، لكنها لم تتجسد قط في الواقع ولم أرها قط، فقط أتخيلها: جميلة، قوية، تشق الطرق، ومثل أميرات الحكايا الأسطورية بعيدة المنال في قلعة حصينة عالية.
لكني عوضت غياب النقود من حياتي بأحلام أخرى، إذ يسعني وأنا داخل حجرتي في الشقة أن أشعر أنني أمام البحر، ويسعني وأنا أسير على قدمي أن أحس أنني اركب سيارة فارهة، ويسعني إذا جلست في صالة بيتي أن أشعر أنني في كازينو ضخم على النيل وأحس هواءه يتدفق علي. الأحلام كانت ثروتي، ولازالت، مما يجعلني أتذكر العبارة القائلة إن :" أفقر الناس من لا يملك إلا النقود".