ليس لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي ينشغل ببناء هرم مالي.

 
أصبحت مصر، وفقا لوكالة "بلومبيرغ"، من جديد قبلة الـ Carry trade "التداول الترجيحي" (اقتراض المصرفيين الدوليين لأموال من مصادر قروض رخيصة، والاستثمار في دول ذات معدل فائدة أعلى على القروض، والاستفادة من فرق نسبة الفائدة على القروض).
 
يمكن الآن لأكبر المصارف في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تلقّي الأموال من مصارفها المركزية بمعدلات قريبة من الصفر، وقد طرحت سندات قروض بقيمة 5 مليارات دولار في مايو الماضي، ستكلف مصر ما بين 5.75% و8.875% فوائد سنوية، اعتمادا على مدة القرض. وهو ما يجعل مصر، بحسب "بلومبيرغ" الدولة الرابعة من بين الأسواق النامية في ترتيب الدول ذات أعلى معدلات فائدة على القروض.
 
وبعد هروب هائل لرؤوس الأموال الأجنبية من سوق الدين المحلي المصري خلال فترة الحجر الصحي، بسبب جائحة كورونا (مع ذروة استثمارات المحفظة قبل الحجر الصحي بنحو 28 مليار دولار)، بدأت رؤوس الأموال في العودة إلى مصر في الصيف، لتتعافى المحفظة إلى 10.6 مليار دولار بنهاية يونيو الماضي. علاوة على ذلك، فإن معدل الفائدة على هذه الديون هو 12-13%، والذي يمنح المستثمرين الأجانب حوالي 7% سنويا، مع معدل تضخم رسمي يبلغ 5.6% واستقرار وربما تعزيز سعر الجنيه المصري.
 
تجدر الإشارة هنا إلى أن معدل تسارع نمو حجم الاستثمارات الأجنبية في السندات المصرية قد ارتفع من 14 مليار دولار اعتبارا من 1 يناير 2019، وحتى 28 مليار دولار اعتبارا من 29 فبراير 2020، وفي الأشهر المقبلة قد يتعافى ذلك المعدل ومعه حجم الاقتراض. وفي حال عدم توفر القروض "السياسية" من صندوق النقد الدولي أو من الدول الصديقة، فإن الحكومة ستلجأ للحصول على قروض بأي ثمن.
 
لكن أسعار الفائدة، المرتفعة بما فيه الكفاية، بالإضافة إلى الديون الكبيرة الموجودة فعليا (والتي تشكّل 90% من الناتج المحلي الإجمالي)، تجعل من الحفاظ على هرم الديون أمرا صعبا للغاية، وميؤوسا منه على المدى الطويل. ومع ذلك، فليس ذلك هو الخطر الرئيسي في المستقبل القريب.
 
الجملة السحرية هنا هي استقرار وحتى تعزيز العملة الوطنية. فإذا انخفض الجنيه المصري أمام الدولار ولو على الأقل بمقدار التضخم، فإن الاستثمارات في الدين المحلي لن تجلب أرباحا للمستثمرين الأجانب، ولن يتدفق الاستثمار الأجنبي إلى مصر، بل سيهرب منها.
 
وكما حدث في لبنان سابقا، تعمل مصر الآن على تعزيز عملتها بشكل مصطنع، كي تدعم تدفق الاستثمار الأجنبي في ديونها بالعملة المحلية. وليس أمامها بهذا الصدد خيار آخر.
 
إن من بين شروط قرض صندوق النقد الدولي حرية تحويل العملة، أي أن الحكومة المصرية لديها آلية واحدة فقط للتأثير على سعر الجنيه المصري، وهي التدخل في النقد الأجنبي، أي استخدام احتياطيات النقد الأجنبي والقروض الجديدة بالعملة الأجنبية لمنع الجنيه من الانخفاض.
 
في الوقت نفسه، تحتاج مصر إلى الدولارات لتغطية العجز في ميزان التجارة الخارجية والمدفوعات، والذي بلغ في الربع الأول من عام 2020 ما قيمته 2.8 مليار دولار، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الوضع استنادا إلى تداعيات الحجر الصحي على قطاع السياحة وعلى تحويلات العاملين المصريين بالخارج، قد أصبح أسوأ كثيرا.
 
وفقط لتغطية عجز الحساب الجاري، تحتاج مصر إلى من يقرضها ما لا يقل عن 12 مليار دولار سنويا، بل وتحتاج أكثر من ذلك بكثير، للتغلب على تداعيات التأثير المدمر لجائحة كورونا.
 
نتيجة لذلك، انخفضت احتياطيات مصر من النقد الأجنبي من 45.5 مليار دولار في فبراير إلى 38.3 مليار دولار في يوليو.
 
في الوقت نفسه، تضطر الحكومة إلى إنفاق الاحتياطيات والاقتراض أكثر فأكثر للحفاظ على سعر صرف الجنيه المصري، حتى تتمكن من الحصول على المزيد والمزيد من القروض. إنها حلقة مفرغة، لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وهو ما حدث في لبنان بالفعل.
 
الخطر الآخر لارتفاع الجنيه هو انخفاض القدرة التنافسية للسلع المصرية وزيادة الاستيراد.
 
أي أن الحكومة مجبرة إما على التخلّي عن القروض، وترتيب هروب رأس المال وأزمة العملة في الوقت الحالي، أو خنق الصناعات الوطنية ببطء، وزيادة العجز التجاري والمدفوعات وتأجيل الأزمة، ولكن في الوقت نفسه تضخيمها. كل الحكومات في العالم تفضل الخيار الثاني.
 
إلى متى يستمر هذا الوضع؟
الأمر يعتمد على الوباء، وعلى حسن نية ما يسمى بـ "المستثمرين الدوليين" وصندوق النقد الدولي، أي إلى حد كبير الولايات المتحدة الأمريكية.
 
لكن، وعلى أي حال، فإن أزمة العملة والديون في مصر، من وجهة نظري، هي مسألة وقت لا أكثر. فنادرا ما ينتهي الالتزام الأعمى بوصفات صندوق النقد الدولي نهاية سعيدة.. وهو ما رأيناه من قبل في مثالي روسيا والأرجنتين.