كتب : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
أتعجب من بعض " أهل الرأي " عندما ينصحون الفنان والمبدع بعدم التورط في إعلان موقفه السياسي ، و أرى أن الفنان المثقف والواعي يصعب عليه أن يبدو بلا هوية فكرية أو انتماء سياسي داعم لخياراته الإبداعية ومفسر لشكل خطواته على درب الفن الذي يعشقه .. وفناننا الراحل " فاروق الفيشاوي " كان أحد أهم مبدعينا من أصحاب المواقف السياسية المعلنة بوعي و انتماء وطني نبيل يعكس رصيد معرفي وثقافي وخبراتي و إنساني هائل لدى الفنان ، فهو من صرح على هامش معايشته أحداث ثورة 30 يونيو ، قال " يوم 30 يونيو نزلت لأمشي بين الجموع من الدقي للأوبرا ، ولم أستطع التقدم والوصول للتحرير من شدة الزحام لأن الشوارع أصبحت كتلاً بشرية يصعب اختراقها لكن يكفيني فخرًا أنني نزلت لكي أرى هذا المنظر البديع ونحن نستعيد وطننا من المستعمر الإخواني وإنقاذ مسار الثورة ، فقد كان واضحًا والكلام للفيشاوي أن الإخوان انتحروا بدري لأنهم أغبياء ولم يستوعبوا ما جرى ، وهذا ما دفعهم لاأنهم يصفون ال30 مليون المشاركين في المظاهرات بـ ( الفوتوشوب ) .. " ..
حول بدايات " الفيشاوي " يذكرنا أحد أهم نقاد السينما الكبار " كمال رمزي " : " هو فنان قادم من مسرح الجامعة ، في فترة تألق النشاط المسرحي الجامعي ، أذكر أنني شاهدت له عرضًا مسرحيًا بالغ التميز وهو " باب الفتوح " للمخرج فهمي الخولي ، وتنبأت أيامها لجنة التحكيم بأنه سيصبح من أهم نجوم السينما المصرية ، وفعلاً هذا ما تحقق بعد أن استكمل دراسته الفنية ، و" الفيشاوي " اعتمد في أدائه على تعابير الوجه المقتصدة ، بالإضافة إلى القدرة على تلوين صوته حسب احتياج الموقف ، وقدم عددًا لا يستهان به من الأفلام السينمائية المتميزة ، وظني أن أهمها " المشبوه " أمام عادل إمام ، حيث يؤدي دور ضابط الشرطة المعذب بخطف مسدسه ، وظل طوال الفيلم محتفظًا بإحساسه بالهزيمة أمام عادل إمام ، وغدا بملاحقته ليس بحكم المهنة فقط ولكن بدافع الثأر من المشبوه الذي أهانه بخطف مسدسه ، وكان الفيلم من إخراج سمير سيف ، وأيضًا مع المخرج محمد خان حقق فيلمًا متميزًا وهو فيلم " مشوار عمر " .
لقد قدم " الفيشاوي " عشرات الأعمال التي تتماهى وتدعم رؤيته حول العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية ، مقدرًا مسئولية النجم الكبير لدعم قضايا الوطن و مساندًا حق المواطن أن يعيش كل مظاهر و مكتسبات " المواطنة الكاملة " و " جودة الحياة " ..
وأتوقف هنا فقط عند دراما مسلسل " دموع صاحبة الجلالة " كمثال طيب ونموذج دال ومؤشر لحالة نضج فنية في مسيرة " الفيشاوي " الإبداعية .. مسلسل اجتماعي درامي مهم عرض عام 1993 خلال شهر رمضان، وحقق نجاحاً كبيراً، لمناقشته أحوال وقضايا البيت الصحفي عندما تتراجع القيم وتنزوي الضمائر في سبيل تحقيق مآرب شخصية ومنافع مهنية بانتهازية حقيرة للأسف .. في استعراض لأساليب الوصول إلى القمة ، وموت المبادئ لذوي الجلالة وأصحاب المقام الرفيع، وذلك من خلال شخصية " محفوظ عجب " الصحفي الانتهازي الذي يصعد بدعم نسائي، وتجاوز لكل حقوق الزملاء بقفزات بهلوانية شريرة ..
و كانت أحداث المسلسل تقع في فترة وجيزة منذ أوائل الأربعينيات من القرن الماضي وما قبل ثورة يوليو 1952 وحتى قيام الثورة، وهو مأخوذ عن قصة للكاتب الصحفي والأديب " موسى صبري " مزج فيها بشكل فني أخاذ بين حصاد خبرات صحفي مخضرم عايش وامتهن كل الوظائف الصحفية وحتى الوصول إلى قمة الهرم الوظيفي في الصحافة المصرية ، بإضافة بعض المواقف الدرامية التخيلية الأدبية في دراما العمل المكتوب ..
ومعلوم أن قصة " دموع صاحبة الجلالة " قد لاقت كإصدار مطبوع نجاحًا جماهيريًا رائعًا كعمل أدبي ، قد يكون لفضحها الجوانب السلبية التى عانى من وجودها قطاع كبير من أهل المهنة في تلك الفترة حيث غياب الضمير المهني عن عمل بعض الصحفيين الذين لا يدرون، أو يتجاهلون مدى عظمة مهنتهم ويتحولون إلى أبواق لذوي النفوذ، ويحولون الصحافة إلى تجارة رخيصة تعتمد على فن التسويق والتلاعب بعقل ووجدان المتلقي، أكثر مما تعتمد على النزاهة والبحث عن الحقيقة والإبداع، وبقدر ما يؤدي ذلك إلى فوائد مادية يحققها هؤلاء، بانين لأنفسهم مجداً زائفاً، بقدر ما تغتال عقول قرائهم الذين يمنحونهم شرفاً قيماً بقراءة ما يكتبون.
و قد صادف حماس المخرج " يحيى العلمي " للعمل والنجم فاروق الفيشاوي لبطولته ، ترشيح الكاتب والسيناريست " عاطف بشاي " لكتابة سيناريو المسلسل أكثر من عامل محفز لإنشاء عمل رائع ، فكاتب السيناريو بدأ الكتابة وهو يعيش حالة معنوية مرتفعة عقب نجاح جماهيري رائع لمسلسله " اللقاء الثاني " ، وحماسه للعمل قد يعود لخبرته بواقع أحوال البيت الصحفي باعتباره ممارسًا للكتابة النقدية على مدى ربع قرن على الأقل في تلك الفترة من عمره ، كما أن صداقته لنجم العمل دعمت بناء تلك الحالة الإبداعية بنجاح ..
و ذكرت المراجع الراصدة للأعمال الدرامية في تلك الفترة عن العمل : " قام ببطولة المسلسل فاروق الفيشاوي الذي قدم شخصية " محفوظ عجب " ، وبرع في تجسيد شخصية الصحفي الذي باع أهله الفقراء، وضحّى بشقيقته الطيبة، ثم رئيسه في العمل، قبل أن يتسبب في سجن الفتاة الأرستقراطية التي أحبته، وذلك من أجل الحصول على مكاسب شخصية ضخمة تمثلت في الشهرة والمال والاقتراب من السلطة، ولكنه في النهاية سقط بالضربة الثورية القاضية، وشرب من الكأس نفسها قهراً وسجناً وضياعاً، وشاركته البطولة ميرفت أمين التي جسدت شخصية " آمال صدقي " رئيس قسم التحقيقات بجريدة " الأسرار "، وعمر الحريري رئيس التحرير " عبد العظيم بك لطفي " ، ودلال عبد العزيز الراقصة " سوسن " ، وصلاح ذو الفقار " وزير الداخلية " ، ونبيل الحلفاوي " جمال عبد الناصر "، وجمال إسماعيل " والد أمال"، وحسن حسني " شديد باشا " ، وعبلة كامل " عنايات " شقيقة محفوظ، وسناء شافع " سعد كمال " ، وشوقي شامخ " صديق سعد " ، وغيرهم ، وكتب السيناريو، والحوار " عاطف بشاي "، ووضع الموسيقى التصويرية " عمار الشريعي "، وأخرجه " يحيى العلمي "...
وأثار المسلسل وقت عرضه جدلاً واسعاً، حيث تساءل الجميع عن الصحفي الحقيقي الذي كتبت عنه الرواية، واجتهد كثيرون لمعرفة شخصية " محفوظ " ، وقال بعضهم إنه الصحفي الشهير " محمد حسنين هيكل " اعتماداً على تشابه الوقائع، ورأى آخرون أنه الكاتب " محمود عوض " استناداً إلى تقارب صارخ في الأسماء، لكن أحداً لم يتمكن من الوصول للكلمة الفصل، فصار الموضوع لغزاً عصياً على الحل، وفي المقابل ظل " موسى صبري " نفسه حتى وفاته عام 1992، مصراً على أن " محفوظ عجب " هو كل صحفي يتوافر فيه كل أو بعض صفات بطل روايته، كالانتهازية والأنانية والخيانة والوضاعة المهنية والأخلاقية ..
وصدق المخرج الكبير " محمد فاضل " في كل ما قاله لمجلة " روزاليوسف " في إن " الفيشاوي " كان يتميز بكونه فنانًا مثقفًا لأنه من القلائل المهتمين بالثقافة الأدبية والفنية والقضايا الوطنية كما أنه لم يكن مجرد ممثل ، ولكنه كان يحاول أن يكون الدور الذي يقدمه مؤثرًا اجتماعيًا فهو محب لكل أنواع الفنون ، كما كان من أكثر الفنانين الملتزمين في الاستوديو فكان يستطيع الفصل بين حياته الشخصية والعملية ، فلا يذكر يومًا حضر فيه " الفيشاوي " إلى الاستوديو من دون تحضير أو دون حقظ النص " ..
وأعود لمواقف الراحل المبدع " فاروق الفيشاوي " ، والتي منها تصريحه في زمن الإخوان " محمد مرسي رئيس الإخوان بكل غباء تجاهل الميدان وأخذ يستخف بالثورة مثل طفل فرح بالمنصب ، وهو لا يعرف قيمة الكرسي الجالس عليه ولم تقنعني خطاباته وسفرياته التي كانت بلا منطق بجانب التعتيم غير المفهوم فترة حكمه على جرائم سرية مثل قتل جنودنا في سيناء ووقتها تساءلت كيف كان مرسي سيحرر القدس كما كان يقول وهو يبيع سيناء ، فقد كان واضحًا للشعب أن مرسي يعد ولا يفي ويعمل عكس ما يقول ومكتب الإرشاد يقود البلاد وليس مرسي ، كنت خائفًا على مصر من ظلام العقل وأفكارهم المريضة باستعادة الخلافة الإسلامية ، ولذلك وأنا ضد فكرة المصالحة معهم .. فهؤلاء أهدافهم دنيئة جدًا وحتى شعارات رابعة كانت مغشوشة ... " ..
و قد نال الفيشاوي العديد من الجوائز منها أفضل ممثل من الأكاديمية الإفريقية السينمائية عام 2009 عن دوره في فيلم (ألوان السما السابعة)، وجائزة المجلس القومي لحقوق الإنسان لأفضل الأعمال الفنية والإعلامية عام 2007 عن مسلسل (عفريت القرش)، وتكريم من مهرجان (طنجة) المغربي الدولي للفنون والموسيقى عام 2004، ودرع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي في الملتقى العربيالرابع للمنتجين العرب 2009، وشهادة تقدير من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الحادية والثلاثين عن فيلم (ألوان السما السابعة).
رحم الله " فاروق الفيشاوي " المبدع والإنسان الشجاع والوطني النبيل ..