قصة قصيرة – تأليف روماني صبري
أحب الشاي الثقيل، فاشربه 3 مرات يوميا وفي كثير من الأحيان أتخطى هذا العدد، وأتذكر انه ذات يوما اخبرني اختصاصي باطني : انه هذا النبات الجميل الساحر الخالد من يقف وراء الألم الذي يجتاح معدتي، وبالطبع لم يرقى حديثه لي، فكيف تطلب من احدهم الانفكاك عن شيء يحبه، أليس هذا غير مألوفا بالنسبة للبشر، لذلك حين عدت إلى منزلي سرعان ما دلفت إلى المطبخ وأعددت لنفسي كوبا من الشاي، على أي حال لازلت أدين للعالم بالكثير، فالطبيب كان بشوش الوجه لم يهمل ثيابه، ظهر معتمرا قبعة قديمة شديدة الجمال، وحين سألته عنها اخبرني أن جدته رحمه الله منحته إياها كمكافأة لارتياده كلية الطب.
وأردف :" كانت تعيش معنا ودائما ما اعتراها خجل كبار السن، ما جعلها لا تفرط في تناول الطعام، وإذا بي أجدها ذات ليلة شتوية جميلة تحيك لي القبعة، وحين أبصرتني، حيت رأتني أتابعها من خلال باب غرفتها المفتوح، اختصتني بقولها :" لكم انتظر ظهور نتيجة الثانوية حتى تغمر منزلنا الفرحة، ولتعلم يا ابن ولدي أن القول المأثور هذا على حق ويقول " اعز الولد ولد الولد"، كانت تحب صوت بقبقة المياه ودخول المطبخ لإعداد الملوخية والبامية على طريقة أهل الصعيد، وكذا الجلوس على مصطبة المنزل لتتبادل بعدها أطراف الحديث مع جاراتها المسنات، وكان يذهب حديثهن صوب الطعام وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وكيف عانين في تربية الأبناء، ليكشفن كم هن ضحيات، حقا كان روح جدتي يهدئ الأعصاب."
تغرد الطيور الآن ولازلت أتذكر هذا الطبيب، انه ما يساعدني على الاسترخاء، لكم جميلة حقا تلك الذكريات التي تمنحنا ملاذا أمنا، فقط ما كان ينقص مدينتي إلا صوت الثلج الأبيض وهو يتساقط على الشجر وعتبات البيوت، فيشرع الأولاد يتجمعون أمام المنازل ويشكلون منه كورا يلقونه في وجوه بعضهم فرحين، أما أنا فكنت سأراقبهم من داخل بلكونتي وأنا أدخن التبغ وفي يدي كوب الشاي الذي صببته لنفسي.
كذلك أتذكر الآن القصة القصيرة التي كتبها واحدا من الشباب الجدد، وفيها وجدت شخصية تشبهني، وهي مادلين، وتبدأ القصة بها وهي تجلس وحيدة تتذكر زوجها الراحل ووالدها وذكريات الطفولة، حيث ترجم الكاتب ذلك قائلا : كان صوت الأغنية الفرنسية المنبعث من الراديو بصوتِ إديث بياف قد بلغ المسامع داخل غرفة السيدة العجوز مادلين، تعالت أصوات البرق وأصبحت أكثر مهابة، توافدت الذكريات على سكان المدينة مثل قطاع الطرق، فتحت مادلين عيونها على المدينة منذ صغرها، وكانت هادئة جدا، رائحة البحر تخترق منازلها الكلاسيكية متى يحلو لها، والسور القديم هدم لتبقى المدينة بلا أسوار، فالنساء هنا في شبابهن يقدسن الهدوء برفقة الحبيب، لطالما ارتعبت مادلين من محطات الإذاعة عندما احتلتها أخبار الحرب.
لم تنقطع علاقتها بوالدها السيد يعقوب، لقد زارها الليلة في منامها، ضمها برفق لصدره ثم همس في أذنها وهو يربت على يدها قائلا : " لا ترهقي نفسك في التفكير، تذكري أن الجميع كانوا يكنون لي كل الاحترام عندما أصبحت غنيا، الحياة ليست مستثناة من الهزيمة، والبشر يقدسون آخر لحظاتهم."، ثمّ سقاها كوبا من اللبن، وأطعمها قطعة من الكوكيز، بعدها أخذها ودخلا معا إلى حظيرة الدجاج وجلسا فوق حزم القش المكومة الجميلة بعد ليلة شتوية قاسية، ثم اعتلى كرسيا خشبيا عتيقا، وكأنه يترأس اجتماعا هزليا لمحاولة إقناع البعض بوجود الله!."
أنها ذكريات جميلة حقا، أيضا أتذكر بائع الكتب المستعملة البسيط "يوسف"، ولكم أقع في الضحك حين ظن إنني لن اشتري منه الكتب، كون مياه الأمطار أغرقتها وهي أصلا متهالكة، فإذا بي أقول له :" انظر إلى ورقها الذي اخذ اللون الأصفر بفضل مرور الأعوام، حيث تنبعث منه رائحة الأمطار الجميلة، لذلك من الواجب أن تعتلي أرفف إحدى المتاحف!، كان رجلا بسيطا كما ذكرت، يحب سندوتشات الفول والفلافل، واخبرني ذات يوما :"أن الكتب مثل النساء العاقلات تمنح السلام .. هذه هي الصورة التي راءها عليها، رفع الصلاة كثيرا حتى يهب الرب السلام والعطف والفلسفة لكل كاتب ومؤلف كي يستمروا في كتابة وقراءة كتب غيرهم، هو الذي كان يشتري الكتب من الأغنياء بسعر رخيص وفي الغالب كانوا يعطونه له دون مقابل، بالإضافة للفقراء الذين يبيعون الكتب التي حصلوا عليها كهدايا.
في يوم آخر، وبخت سيدة طفلها لتمسكه بكتاب رومانسي، كان غلافه ساحرا ، فأبطال القصة يقبلان بعضهما، وحين اشتد غيظها من الطفل الذي راح يعنفها أمامنا ويصفها بالأم غير الحنونة، صفعته فوقع الصغير في نوبة بكاء مستسلما، فإذا بيوسف يختصها قائلا :" لا تخافي فان الكتب لا يمكن أن تؤذيه، خذي الكتاب أرجوك واقرئيه أولا، وعندما تجديه مخلا ويضج بالإباحية، اتصلي بالشرطة وعلى الفور سيأتي رجالها ليلقون القبض علي وأنا في السوق، فتنتهي حياتي نهاية مأساوية !، في النهاية اعترى السيدة خجلا جميلا وقررت شراء الكتاب بعد حديث يوسف!، لكم بسيطا وماكرا هذا الرجل، فقلت حينها :" اللعنة قد حولت الحياة الجميع إلي كتاب ومؤلفين"
دعوني أحدثكم عن نفسي، سماني والداي "فرحان"، تربيت في كنف أسرة متوسطة الحال، في حقيقة الأمر أنا فنان "فسيفساء"، وكانوا يقولون كثيرا في الماضي أن هذا النوع من الفنون جميل وساحر، لا لا أنا لست فنان بل حرفي، لان الإنسان حين يمنح نفسه هذا اللقب يستحيل إلى خبيثا، نعم لان في ذلك استبداد على الآخرين، قضيت سنوات وأنا أزخرف حوائط المنازل والأسقف بلوحات فيسفساء، وكنت اجني مقابل ذلك اشد الإشادة والاحترام من أصحابها إلى جانب أن جيبي بعد كل عمل يزخر بالمال، لكم برعت حقا في صف قطع الزجاج والقشور والأحجار بجوار بعضها باحترافية شديدة، فتخرج لوحات جيدة ترضيني وترضى زبائني على الأقل، ما جعلني الأشهر.
ومؤخرا جاءني رجل واسع الثراء، من محبيي هذا الفن، قال لي انه قضى أجازته في الولايات المتحدة وهناك زار كاتدرائية القديس باتريك في نيويوريك، فإذا تخطف بصره وتسحره "فيسفساء" الوجه المقدس للمسيح، ليشرع بعدها في التقاط العديد من الصور لها بواسطة هاتفه، فإذا بي أنا الآخر أشعل سيجارة واخذ أدخنها من جمال حديثه عن اللوحة وتفردها، فأنا حين تنزل السعادة بقلبي أدخن التبغ !، ولكن لأنه كما يقول المثل " لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن"، أوعزني الرجل بتنفيذ طلب غريب، وجاء ذلك بعدما وثب من على الكرسي ولبث صامتا، حتى شعرت وانه يملك الدنيا بما فيها وإنني مجرد عبد لديه، حسنا اللعنة على الصعبانيات البشرية، ما جعل لون وجهي شاحبا وكان هاتفه في يدي حيث رحت استعرض الصور، استند الرجل على المائدة ثم اخذ يقول :" الجروح التي تعتري وجه المسيح في فسيفساء القديس باتريك، ليست بالغة، ويقولون انك الأشهر هنا، كم تريد من المال مقابل انجاز فسيفساء مثلها على حائط فيلتي الأكبر شريطة أن تفرط في جروح الوجه، كذلك الحزن والاكتئاب على وجه المخلص اجعلهما شديدان، فجاء ردي :" هذا إثم انتهاك لحقوق الفنان الأصلي، فرد دون أن يعرفه الحنق :" شيطان يعضك، ثم اختصني بابتسامة، وأردف يقول بصوته الحاد :" عزيزي أنا أتابع أعمالك الدينية في الكنائس، وغير الدينية أيضا وجميعها بعيدة عن الحزن كونك تفرط في البهجة، وأنا أؤمن بك كما الكثيرين، ويبدو انك بلغت الأربعون ولم تتزوج، فتتفوه أمامي بسخيف القول مستخدما عبارات عفا عليها الزمن، لكن رغم ذلك لن اعرض عنك، هيا صب لي فنجانا من الشاي، ولتؤمن أن أرضاء الزبون ليس إثما كذلك الزواج.
واسفاه، انتصر الرجل وتمت الصفقة، ولم يجعلني ذلك بعدها اذرع الغرفة طولا وعرضا جراء غضبي، فانا التزمت منزلي قرابة الأربع أشهر بعد تفشي فيروس كورونا، فقلت مواردي، بالطبع أنا شخص يفعل ما يحلو له، لكن مهما يكن من أمر ليس عارا أن أحقق ما يرضي الزبون، أتذكر إنني سالت هذا الرجل وقتها ما مرد طلبه، فقال لي :" والدي كان شديد التدين، وفي صغري عندما كنت ارتكب الحماقات كان يعنفني أشد التعنيف، فيجرني صوب تمثال المسيح المصلوب ويجبرني على رفع الصلاة له، وكنت أقف مرعوبا خجولا من نفسي، فاختص المسيح قائلا تنفيذا لإرادة والدي:" إلهنا الحنون يامن صلبت من اجلنا صدقني لن ارتكب الخطية مرة ثانية! ."
تبادلت معه أطراف الحديث، وكأنه طعنني بسكين تلمه:" وما كانت خطاياك، فيجيب :" كنت أفرط في لعب الكرة وتناول الحلوى، فخشي والدي أن افقد الملكوت إذا عرفني الموت بعدما أتجاوز عمر الطفولة، وها أنا الآن أسير في نفس الطريق خوفا على أبناءي وأحفادي، هيا أيها الفنان البارع سأصطحبك بسيارتي إلى فيلتي، فلكم أتوق لرؤية فسيفساء المسيح الأشد ألما، هيا لندع الآمات المسيح تذكرهم بالملكوت"، لا اعرف لماذا دونت كل ذلك الآن في مذكراتي، وكأنني اروي لأصدقائي، ربما الجمال الذي يظل عالقا في الطبيعة والبشر والحيوانات والفن هو من يقف وراء ذلك؟!، فالرجل الثري توسل لي كثيرا حتى اقلع عن التدخين نهائيا وكأنني ابنه، علاوة على ذلك لازال يهاتفني بين الحين والحين ليطمئن على أحوالي، حسنا لأصلي الآن وأنام، وفي الغد عندما استيقظ سأشرع أنفذ أعمال فسيفساء تحمل وجوه كل من ذكرتهم، فانا أدين لهم بالكثير، رغم الاختلافات بيننا!.