خالد عكاشه
للوهلة الأولى؛ بعد زلزال انفجار مرفأ بيروت، بدت العاصمة اللبنانية المنكوبة ليست وحدها التي تقف على أعتاب محطة جديدة من المحطات التاريخية الفارقة، بل يتشارك معها المشرق العربي بكامله، وليست مبالغة ان امتدت تلك الوقفة لتشمل دوائر الارتباط الأوسع المشدودة إلى مركز التفجير. هذه الدوائر تشمل دول القلب العربي وفيها مصر والسعودية ودول أخرى، تعد لبنان بالنسبة لها صيغة ارتباط على مستويات متعددة، منها الوجداني كالثقافة والنشر والفكر والفن، وآخر له علاقة بصراع المحاور ومساحات النفوذ والذي نبت مع الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يخفت حتى الآن بل دخلت عليه منذ عام 2011 الفارق، متغيرات جديدة نقلت طابعه الصراعي إلى مناطق أبعد وأعمق خاصة بعد ما جرى في فصول المآساة السورية.
لبنان البلد الصغير، الذي ظل طوال تاريخه منذ التأسيس يعد رقما مهما في معادلة توازن المشرق العربي، استيقظ مع اندلاع الأزمة السورية ليجد مكون كبير من مكوناته الرئيسية، وقد انخرط في سوريا بأكبر مما تتحمله هشاشة الوضع الداخلي الذي كان سائدا عشية تلك الأزمة. ومع التمدد الزمني للأزمة وتعقدها ازداد الوضع هشاشة حيث بدت فيه لبنان وكأنها تسير على زجاج رقيق شفاف، ينتظر "لحظة سعال" واحدة جرت بالفعل منذ عامين حين اندلع الحراك الشعبي، الذي وجد حوائط الزجاج من حوله لا تستر "عورة" ولا تسمح بمزيد من الحياة الاصطناعية، التي باتت لا تقنع أحد ولا تسمن أو تغني من فساد كامل بدأ بالاقتصادي وامتد للسياسي والأمني، فقد كان الزجاج فعليا كاشفا لما آلت إليه الدولة ككيان تحت وطأة صراع المحاور واضطراب الإقليم. فقد بدا المشهد وهو يتشكل ليعيد بيروت مرة أخرى كي توظف كساحة حرب "تحتية" لتصفية حسابات القوى الإقليمية المختلفة، ولتبدأ في تسديد الفواتير الجديدة من حياة ودماء أبنائها، لذلك نجدنا اليوم لسنا فقط أمام انفجار في "مرفأ" هشم مباني ومنازل بيروت، بل أمام انفجار طال البنية الحياتية والسياسية للبنان قبل مكونات بنيتها التحتية.
رئيس الحكومة اللبناني حسان دياب أعلن أن (2750 طن) من "نيترات الأمونيوم" موجودة في مستودع في مرفأ بيروت تسببت بالانفجار الضخم، بعدها قال الرئيس الأمريكي أن خبراء عسكريين أبلغوه بأن انفجار بيروت ناتج عن "قنبلة ما"، وأضاف أن المعلومات المتوافره لديه أن هذا نوعا من أنواع "الانفجار التصنيعي". في حين جاءت التحقيقات الأولية؛ لتشير إلى أن سنوات من التراخي والإهمال هي السبب في تخزين مادة شديدة الانفجار في ميناء بيروت، مما أدى إلى الإنفجار المروع، وأن مسألة سلامة التخزين عرضت أكثر من مرة على عدة لجان وقضاة لإصدار أمر بنقل هذه المادة شديدة القابلية للاشتعال، أو التخلص منها، لكن من دون أن يصدر قرار واحد بشأنها. هذا ربما أصبح الآن من الماضي، حيث يشكل هول الحاضر أبعاد أكثر سطوة على الذهن والتفكير فيما هو قادم، فصباح اليوم التالي للانفجار كشف عن ضحايا يتجاوز عددهم 100 شخص ومرشحين بقوه للزيادة كل لحظة، والمصابين تجاوزوا الأربعة آلاف جريح في مشافي تكدست على سعتها القصوى، في وقت يقف الجميع مشلولا أمام الرقم الصادم المتمثل فيما بين 250 ألف إلى 300 ألف شخص، باتوا من دون منازل في عداد "المشردين" بكل ما تحملة عمق مأساة حروف الكلمة من توصيف.
على صعيد المشهد الأمني بلبنان، يظل السؤال المعلق الذي لن يفصح عن اجابته سريعا بالتأكيد، هو هل ما جرى "إنفجار أم هجوم" ؟ فأول ما تبادر لذهن اللبنانيين أن تفجيرات الثلاثاء، جاءت قبل يومين من إصدار المحكمة الخاصة بلبنان حكمها النهائي في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "رفيق الحريري" عام 2005، بل واستحضرت الذاكرة الجمعية اللبنانية أن مشهد المرفأ قريب الصلة إلى حد كبير، بمشهد الاغتيال الدامي الذي أدخل لبنان هو الآخر إلى حقبة "ما بعده"، والحاضرة والجاثمة حتى اليوم على الوضع اللبناني بقوة وبتفاصيل كثيرة. فهذا الخراب المروع الذي خلفه تفجير المرفأ على مسافة أربعة كيلومترات من مركزه، لن يقف عند حدود الخسائر المادية الفادحة بقدر ما سيضرب الجميع بشظايا الزجاج المتطاير في كل مكان، فلا أحد يتصور ـ وهو أمر مبكر ـ أنه سيعود على ما كان الأمر عليه قبل التفجير، تماما كما حدث مع تفجير اغتيال الحريري الذي تشابه في المشهد والمعنى.
كان لافتا بصورة كبيرة، قبل أن يوغل ليل بيروت في ظلامه الحزين، أن انتشر مقطع فيديو قديم على وسائل التواصل الاجتماعي لزعيم جماعة "حزب الله" اللبنانية حسن نصرالله، يلوح فيه بإمكانية تفجير (حاويات الأمونيا) في ميناء حيفا بإسرائيل. ويعود تاريخ الفيديو المتداول إلى فبراير من العام 2016، وهو جزء من كلمة لنصر الله بعنوان "مقاومة لا تهزم" جاءت بمناسبة إحياء "حزب الله" للذكرى السنوية لما أسماهم بالقادة الشهداء، هذا الجزء من الكلمة يتحدث فيه عن "قوة الردع" التي بات يمتلكها "حزب الله" في مواجهة إسرائيل، حيث اتخذت سلطاتها آنذاك بعدها خطوات عاجلة لإخلاء مخازن ميناء حيفا من الأمونيا. فهل كان انتشار الفيديو واستحضاره اتهام مبطن لمن تداوله موجه لـ"حزب الله"، باعتبار أنه الوحيد الآن المعني بتوجيه "رسالة ردع" للداخل اللبناني، مفادها أن حكم محكمة "الحريري" في حال نفاذه بحق أعضاءه، سيكون المقابل تدمير لبنان من الداخل.
بدا أن من قام بالتخطيط لانفاذ تلك الرسالة، وضع في حسبانه أن شحنة قديمة متروكة في الميناء يمكنها أن تفي بغرض الايهام بتفجرها ذاتيا، والمراهنة على أن اللبنانيين وغيرهم سيلتقطوا الرسالة بالتأكيد ويفككوا شفرتها سريعا. لكن ما لم يكن في حساب المخطط ومن جمع المعلومات عن تلك الشحنة، أن المشهد قد يخرج عن السيطرة على هذا النحو، وأن تدميرا أقرب للمشهد النووي سيطيح بدائرة كبيرة ويدمرها بتلك الصورة التي لم يكن مقصودا أن تتوسع بتلك الكيفية. هذه الفرضية وهذا الاتهام؛ يعززه ليس فقط تاريخ "حزب الله" ومن يقف خلفه في إيران وسورية، وخبرتهم ونهجهم في هذا النوع من الخطابات العنيفة المدمرة لحظة انغلاق المشهد على أي منهم. إنما أيضا بدأ المحققون يبحثون ـ على الأقل ـ من المقاطع المصورة التي نقلت اللحظات الواقعية، حيث بدا التفجير الأول هو المقصود من العملية المدبرة والذي زرع فيه ما هو كفيل باشعاله وتفجيره، حيث ستظل الخسائر في موقعه دون أن تمتد بعيدا، كما حدث لاحقا في التفجير الأكبر الذي صاحبته الموجه الانفجارية الأعنف التي بدت مثل "التفجير النووي"، والتي تسببت في هذه الخلخلة الكبيرة التي لم يضعها المنفذ في حساباته أن تضرب فضاء بيروت، على هذا النحو الذي جعل المشهد أقرب لزلزال سجلته المراصد على درجات تجاوزت 3 على مؤشر الزلازل. سيبقى السؤال طويلا عن صانع الزلزال، من أمر ومن لم يدرك أبعاد إنفاذ رسالة بهذا القدر الذي لم يتحسب له، ومن علم مسبقا وصمت مراهنا على أن ينجو هو بمستقبله المهدد، ومن ألح لانفاذ الأمر قبل صدور حكم المحكمة حتى لا يبدو الأمر كرد فعل سيشير مباشرة لفاعله، ومن يرى أن اصاباته ومحاصرته بالخارج تحتاج لأن ينفس عنها في الساحة اللبنانية التي لاطالما استخدمها للفكاك من أزماته الخانقة. في كل الأحوال؛ ستظل الاجابات معلقة خاصة وهي تطرح بعد ساعات معدودة من التفجيرات، لكن أمر قد يبدو أكثر أهمية، أن انفلات الأمر على هذا النحو قد يجعل تلك المراهنات والمخططات هي من فعل الماضي الذي ولى بحساباته، فاليوم هناك مشهد جديد على أعتاب التشكل قد تكون حسابات الخسائر فيه، بأقرب مما ظن المنفذون أن هناك ثمة أرباح قد تبدو تحت الركام أو خلفه.