هذا عَلمُ لبنان الحبيب يضىء واجهاتِ الهرم الأكبر فى وطنى مصر، ويتلألأ على جدران برج خليفة فى الإمارات، وينزف فى وريد كل قلب عربى شريف.
هذه شجرةُ الأرز الخضراء تقفُ سامقة تتحدى النوازلَ وتتكلم أوراقُها قائلة إن لبنان أقوى من أن تكسره الفواجعُ القاسيات، وإن عظُمت، وإن تلك الكارثة المروّعة التى أدمت قلوب العالمين سوف تمرُّ كما مرت من قبل أهوالٌ على لبنان الجميلة المنذورة للوجع، بينما تهبُ الدنيا زهورَ الفرح، وسوف يخرج منها لبنان أقوى وأبهى، ويتجمع الشعبُ اللبنانى العظيم على نُسغ التوحد ونبذ الشتات مثلما تتجمع أوراقُ شجرتها الخضراء على نسغ الحسن والأناقة.
انفجاراتٌ كثيفة صدّعت قلبَ بيروت الأخضر وصدعت أركان العالم. شهداءُ ومصابون ودمارٌ جاحد لم يرحم الحُسنَ والثقافة والبهاء الذى مضفورٌ فى نسيج لبنان. لم يراود النومُ عيوننا وقلب لبنان يبكى لأن لهذا البلد شريانًا فى كل قلبٍ مصرى.
نهمسُ مع نزار قائلين:
«يا ستَّ الدنيا يا بيروت
مَن سرق أساورك المشغولة بالياقوت؟!
مَن صاد خاتمَكِ السحرىَّ
وقصَّ ضفائرك الذهبية
مَن ذبح الفرح النائم فى عينيك الخضراوين؟!
مَن شطب وجهك بالسكين
وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
مَن سمَّم ماء البحر ورش الحقد على الشطآن الوردية؟!»
■ ■ ■
ولكن بيروت لم تحصد قلوبَ العرب وحسب، بل فازت بنصيب فى قلب كل مثقف من أرجاء الأرض. هذه صديقتى الشاعرة الأمريكية «آندريا ل يونج»، التى تعيش فى «نيو أورليانز»، ترجمتُ لها قبل عشر سنوات، من بين ما ترجمتُ، قصيدةً بعنوان «أخبار من بيروت»، تقولُ فيها:
«كلٌّ منا
كان سيزور مدينة الآخر
أنتَ أحببتَ نيو- أورليانز،
وأخبرتَنى
إن استطعتَ
أنكَ سوف تعيش هناك فترةً
وأخبرتُكَ أنا
أن شيئًا ما كان دائمًا يشدّنى إلى بيروت
الكتبُ، الأغانى، الاسم ذاته، نغمة: «رُوت» ربما التى تحمل صيغة الجذور العتيقة
ها نحن قد تذكرّنا الشىءَ الذى يحيا فى مدينة
الشىء الذى يهبها الفناء
وقلتَ لى:
حاولى أن تأتى قريبا..
فى اليوم الخامس تكتب لى:
ليلةٌ هادئة فى بيروت: على نحو ما
مقارنةً بما يعانيه سكان صور والجنوب والبقاع وطرابلس
قُصف ميناء طرابلس
فُجِّر ميناءُ بيروت
المدى المستهدَف تمدد إلى حيث مناطق جديدة من الوجع
المدنيون، المدنيون، المدنيون
مخزون الوقود، الخضراوات والفاكهة.
■
على الطريق السريع خارج أورشليم
رجل يَمَّم شطره صوب وجهة واحدة
عربة مكتظة بالبيض الأبيض
فى الجهة المقابلة:
شاحنة مكتظة بالقذائف التى ستشعل لبنان.
■
قرأتُ فى الإلياذة:
«إلهُ الحرب محايدٌ:
يوزع الموتَ المجانىّ على الرجال
الذين يوزعون الموتَ المجانىّ»
■
فى اليوم السادس تقول لى
القصف لم يتوقف
ثَم فقط المزيدُ من المسطحات الفارغة
الآن.
■
ماذا يريدون أن يروا قبل أن يوقفوا النار
أنتَ تسألُ
محاولًا أن تفهم طبيعة القرار الذى أجمعوا عليه
القرار الذى يتفق مع مرأى لبنان يحترق.
■
طلب والد هكتور من أخيل أن يوقف المعركة
حتى يتمكن من دفن جثمان ابنه
وأخيل، الذى قتل هكتور، يوافق
ثم يدعوه إلى العشاء.
3000 عام ولا شىء يتغير:
نقتلُ
ندفنُ
نأكل
ثم ننتظر مثل زوجة هكتور
التى لم تقرأ قائمة ضحايا المعركة.
■
المقاتلون
ذوو القمصان السوداء
يظهرون فى المشهد
يحصون الموتى
يسحبون الجثث من تحت الأنقاض
لكن النيران تظل تنهمر كالمطر
والرياحُ من إعصار المروحيات تعصفُ.
■
أثناء الطوفان
انجرف دانيال فوق قطعة من السياج
طوال الليل كان يشعر بالأشياء تفجّر الماضى
التقط صورةً
ثم أعاد كاميراه ثانية إلى غلافها البلاستيكى
لاحقًا
شاهد نفسه فى المقبرة
كل الجثامين من حوله كانت تُنتشل
ثقيلةً بالماء
■
كان علينا أن نتحدث عن مدينتينا
بوصفهما موانى
بوصفهما أمكنةً يُعاد بناؤها من الأنقاض
لم يكن هذا
هو ما علينا مقارنته.
■
أنت تكتب عن الجلاء،
عن الامتيازات والحقوق
عن وحدة الصف والتعاضد
هذا ما خططنا الحديث عنه،
لكن برهاناتٍ مختلفة
وسياقاتٍ مختلفة.
■
سكونٌ
يأخذ شكل الأبخرة
يجعل النواصى تتحرك عبر المجاورات السكنية
يجعل الإيماءات غير مكتملة
يجعل كل شىء مألوفٍ غيرَ مألوف
إنه وقت الحرب
صباحات وقت الحرب
مساءات وقت الحرب
إنه وقت الحصار
غروب الشمس وقت حصار بيروت
فى كل حلم كارثة.
■
قلوبنا مع لبنان وشعبه الشقيق.
خالص التعزيات القلبية لأسر الضحايا فى بيروت الحبيبة.
اللهم بردًا وسلامًا على لبنان وأهله. وسلامًا عليكِ يا بيروت.
نقلا عن المصرى اليوم