فيفيان فايز مينا
"طرق الرب" هى الرواية الأولى للصحفى القبطى الشاب شادى لويس بطرس، وبهذه الرواية يكون قد إنضم إلى الرعيل الصغير من الكتاب الأقباط الشباب وهم حسب معلوماتى هدرا جرجس وروبير الفارس، وهم جيل أصغر سنا من جيل يوسف وهيب ونعيم صبرى ورؤوف مسعد ووجيه غالى الذى كتب رواية واحدة باللغة الإنجليزية ثم أنهى حياته، وقبل هؤلاء كان هناك بالطبع الكاتب الكبير إدوارد الخراط. وكما يتضح فمنذ ظهور فن الرواية فإن عدد الروائيين الأقباط قليل جدا. أما عن الروائيات القبطيات فبحسب علمى فإن هناك روائية قبطية واحدة هى الصحفية والكاتبة والروائية والناقدة لوسى يعقوب التى إشتهرت كتاباتها ورواياتها فى سبعينات القرن الماضى. مما سبق يتضح قلة الروائيين الأقباط وندرة الروائيات القبطيات وهى ظاهرة تستحق الدراسة وقد يكون أحد أسبابها، وأقول أحد أسبابها وليس كلها، إنزواء الأقباط فى المجمل العام داخل أسوار الكنيسة وإنشغالهم بالشأن الكنسى أكثر من الشأن العام.
عودة الى كاتبنا الشاب شادى لويس ورواية "طرق الرب". صدرت الرواية عام 2018 عن دار نشر الكتب خان وهى رواية قصيرة نسبيا تقع فى 191 صفحة، ورغم ذلك يستطيع الكاتب فى هذه الرواية القصيرة والحبكة البسيطة جدا وأحداثها القليلة القاء الضوء ببراعة ومهارة على الكثير جدا من مشاكل الأقباط بصفة عامة ومشاكل شباب الأقباط بصفة خاصة، بالإضافة إلى مشاكل الشباب الثورى ومشاكل شباب الطبقة الوسطى، كل ذلك دون أن يشعر القارىء أن أيا من ذلك مقحم على العمل بل يأتى طبيعيا فى نسيج تلك الحبكة البسيطة، بل إستطاع الكاتب أيضا من خلال تلك الحبكة والأحداث القليلة التنقل عبر الزمن بين الماضى والحاضر والتنقل من مكان إلى أخر من القاهرة إلى الصعيد "الجوانى" إلى الوجه البحرى إلى أوروبا، والتنقل أيضا عبر الطوائف القبطية بين أورثوذكس وكاثوليك وإنجيليين وتعداهم أيضا إلى الإرساليات الأجنبية التى كانت موجودة فى مصر فى أوائل القرن العشرين.
ذكرتنى رواية شادى لويس بتيار الشباب الغاضبين Angry young men وهم مجموعة من الكتاب المسرحيين والروائيين الإنجليز الذين ظهروا فى إنجلترا بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وكانوا كما يشير إلى ذلك إسمهم غاضبين ويعانون من خيبة الأمل فى مجتمعاتهم وحكامهم ويشعرون باليأس والإغتراب فى مجتمعاتهم تماما مثلما كان يشعربطل روايتنا الباشمهندس شريف بخيبة الأمل واليأس والإغتراب فى المجتمع وفى الكنيسة أيضا، وهى حالة كان يعانى منها والده ووالدته من قبله بل وجدوده أيضا. إلا أن مشاكل الباشمهندس شريف لا تتوقف عند ذلك فقط بل تتعداها أيضا إلى مشكلة الهوية وهى مشكلة يعانى منها الكثير من أفراد الأقليات بصفة عامة.
تحتل مشكلة "الأسماء" قدرا لا بأس به من الرواية، فإسم الإنسان هو جزء من هويته. يحكى شادى لويس على لسان البطل عادة إختيار أكثر من اسم للمولود فى عائلته بالصعيد، أحدهما إسما مسيحيا والأخر إسما محايدا لا يدل على ديانة معينة، وهو ما أعاد الى ذاكرتى تحليل الكاتب الكبير لويس عوض فى كتابه "أوراق العمر" عن الموجات المتعاقبة من إختيار الناس لأسماء مواليدهم بإختلاف الحقب وإختلاف درجات الوحدة الوطنية أو التمييز ضد الأقباط كأقلية، ويبدو أن قضية الأسماء تقع ضمن إهتمامات الأقلية القبطية حيث أن الكاتب الكبير لويس عوض هو أيضا قبطى كما يتضح من إسمه!
يتكشف لنا تاريخ عائلة شريف مع الأسماء ومع الكنائس وطوائفها المختلفة من خلال جلسات الإعتراف المنتظمة التى واظب عليها شريف، ولم نكن كقراء لنعلم سبب إضطرار شريف لهذه الجلسات لولا ملخص الرواية المكتوب على ظهرها والتى تنص على أنه " لكى يحصل على شهادة "خلو موانع" تسمح له بالزواج، وتحت إلحاح من التعقيدات البيروقراطية للدولة، يجد شريف نفسه مضطرا، لأول مرة فى حياته، للمثول أمام القس فى الكنيسة، فى جلسات إعتراف منتظمة، للبت فى أمره". كنت أود كقارئة ألا أعرف سبب هذه الجلسات، والتى لا تظهر سوى فى نهاية الرواية، قبل قرائتها، وذلك للإبقاء على عنصر التشويق فيها.
يحكى شريف القصة بضمير المتكلم first person narrator ويظهر واثقا من نفسه فى مواجهة أبونا أنطونيوس وماسكا بزمام الأمور ودفة الحديث وتنتهى الرواية فى فصلها الأخير بتلاحق سريع لأحداث كثيرة بصيغة الراوى omniscient narrator وكأن شريف قد أصبح مفعولا به إذ نراه خانعا مستسلما مذعنا وهو ما يصيب القارىء بخيبة أمل ويأس وإغتراب وهى تحديدا المشاعر والأفكار التى تدور حولها الرواية، فقد إنتهى به الحال إلى الإنزواء داخل أسوار الكنيسة!
يبقى أن أقول أن شادى لويس يستهل روايته بأية من الكتاب المقدس "الأباء أكلوا حصرما وأسنان الأبناء ضرست" (أرميا 29: 31) والشاهد الصحيح هو (أرميا 31: 29). وبغض النظر عما يؤمن به الكاتب أو القارىء فقد نفى الكتاب المقدس نفسه هذا المبدأ قائلا بعدها مباشرة "بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه" (أرميا 31: 30) وفى موضع أخر "مالكم أنتم تضربون هذا المثل ... قائلين الآباء أكلوا الحصرم واسنان الأبناء ضرست. حى أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل ... ها كل النفوس هى لى. نفس الأب كنفس الإبن. كلاهما لى. النفس التى تخطىء هى تموت" (حزقيال 18: 2-4). وهذه الأيات تجيب على السؤال الوجودى القديم "هل الإنسان مسير أم مخير؟"، وحتى إن كنت عزيزى القارىء ممن يؤمنون بالقدرية وبأن الإنسان مسير، أستطيع أن أقول لك أن لو ما أكل الأباء الحصرم ما ضرست أسنان الأبناء. ربما هى ليست "طرق الرب" بل "طرق الإنسان".