مراد وهبة
إن الوضع القائم فى السودان يمكن أن يقال عنه إنه وضع قائم مأزوم. والمأزوم من أزمة والأزمة تنطوى على تناقض حاد يكون من شأنه ضرورة إقصاء أحد طرفى هذا التناقض.
والسؤال إذن: ما هما؟
إنهما حزب المؤتمر الوطنى الذى ينتمى إليه الرئيس المخلوع عمر البشير والأحزاب الإسلامية المتحالفة معه من جهة، ولجان المقاومة التى ترفع شعار تصحيح مسار الثورة التى أطاحت حكم الإخوان المسلمين من جهة أخرى. والمغزى فى هذا التناقض الحاد أن هوية أحد الطرفين واضحة بلا مواربة فى حين أن الطرف الآخر ليس كذلك. والجدير بالتنويه هنا أن السودان كان على ذلك الوضع المأزوم منذ عام 1969، أى منذ نصف قرن، إذ كان الصراع حادًا بين حزب الإخوان المسلمين والحزب الشيوعى. وفى هذا السياق تلقيت دعوة من وزير التربية والتعليم الدكتور محيى الدين صابر فى أغسطس 1971 لكى أكون أستاذًا زائرًا بجامعة الخرطوم. ومع ذلك فلم تكن مسألة الدعوة على هذا النحو إنما كانت فى باطنها على نحو آخر وهو المساهمة فى تطوير جامعة الخرطوم التى كانت فى حينها موضع صراع بين الإخوان والشيوعيين، وكان الرئيس جعفر النميرى قد أفرج عن الإخوان المسلمين فدعونى للحوار معهم فى ندوتين. وفى إحداهما كنت أتحدث عن دور الأديان فى العالم المعاصر وعن كيفية توظيفها لمحاربة المعسكر الشيوعى. وهنا ضجت القاعة فتساءلت: لماذا هذه الضجة؟ وجاء الجواب: لأن ثمة دينًا واحدًا هو الإسلام وما عدا ذلك فليس بدين.
وفى شهر فبراير من عام 1972 طلب منى الوزير محيى الدين صابر تأليف كتاب فى الفلسفة للصف الثالث ثانوى عالى- القسم الأدبى- وقد كان. ومع ذلك فالمناخ الفكرى فى السودان لم يكن يسمح بتوزيع كتابى على الطلاب، إذ كانت الفكرة المحورية فيه أن أى حقيقة مرهونة بزمان معين ومكان محدد بسبب الواقع المتطور، ومن ثم فالحقيقة متغيرة ومن هنا تكون نسبيتها، وهو ما أزعج الإخوان المسلمين فمنعوا توزيعه على الطلاب. وبعد ذلك غادرت الخرطوم فى يونيو 1972. حاول الوزير إقناعى بالعدول عن المغادرة إلا أننى قلت له مداعبًا: ستترك منصبك بعد أن أغادر الخرطوم. أما هو فقد كان كريمًا كعادته فأقام حفل وداع دعا إليه بعض الوزراء.
وإثر دعوتى إلى القاهرة بفترة وجيزة لحق بى الوزير لمحاولة تقريب وجهات النظر بين الرئيس السادات والرئيس النميرى إلا أنه أقيل وهو فى طريقه إلى الخرطوم ثم اعتقل إثر هبوطه من الطائرة.
وفى سبتمبر من عام 1984 أصدر النميرى قوانين الشريعة الإسلامية وعندما عارضها المصلح الدينى الجماهيرى محمود محمد طه اعتقله ثم قدمه للمحاكمة وحُكم عليه بالإعدام فى 18 يناير 1985.
كان هذا هو حال السودان فى النصف الثانى من القرن الماضى وهو فى قبضة الإخوان المسلمين.؟وفى العام الماضى من القرن الحادى والعشرين استولى الجيش على السلطة إلا أن النخبة السودانية التى شاركت فى هذا الاستيلاء كانت بلا هوية، لأن الهوية المطلوب تأسيسها هى هوية علمانية بحكم الضرورة الكامنة فى الإطاحة بحكم الإخوان الأصولى. وهكذا تكون النخبة السودانية مماثلة للنخب العربية فى سياق ثورات الربيع العربى.
نقلا عن المصرى اليوم