(320-417م )
بقلم/ماجد كامل
تحتفل الكنيسة القبطية الارثوذكسية يوم 8 أبيب من الشهر القبطي الموافق 15 يولية من التقويم الميلادي بتذكار نياحة القديس العظيم الأنبا بيشوي ؛والقديس الأنبا بيشوي هو أحد مؤسسي الرهبنة الكبار في برية وادي النطرون والمعروفة في كتب التاريخ ب"برية شيهيت" . ولقد ولد بيشوي "وهي كلمة قبطية معناها "سامي" باللغة العربية "في أحدي قري المنوفية عام 320 م ؛ وكان والداه باريين تقيين ؛ثم توفي والده وهو في سن الطفولة فتكفلت أمه برعايته ؛ وفي أحد الليالي جاءها ملاك الرب في رؤيا وطلب منها أن تعطي أحد أولادها ليكون خادما للرب ؛ فأجابت الأم "أمامك أولادي السبعة أختر منهم من تريد " فمد يده وأمسك بيد بيشوي ؛فقالت له الأم "يا سيد هذا أضعفهم بنية فأختر من يقوي علي حسن تأدية الرسالة الإلهية " فأجابها الملاك "أن قوة الرب في الضعف تكمل " .وعندما بلغ بيشوي سن العشرين أشتاقت نفسه إلي الرهبنة فتوجه إلي برية شيهيت ؛وتتلمذ علي يد القديس العظيم الأنبا بموا "كلمة قبطية معناها أسد" وبعد وفاة معلمه مكث مع زميل رهبنته القديس يوحنا القصير فترة من الوقت ؛ثم أشتاقت نفسه لحياة الوحدة ؛فتوجه في الصحراء إلي مسافة حوالي مترين – وهو مكان ديره الحالي- ؛وأقام فيه نحو ثلاث سنوات مواظبا علي الصلاة والصوم في تداريب نسكية شديدة ؛ومن الروايات التي تروي عنه أنه كان يربط شعره "وكان طويلا جدا " في حبل مربوطا بحلقة موجودة في أعلي مغارته حتي إذا ما غلبه النعاس يشتد الحبل فيستيقظ بسرعة ؛ومازالت هذه المغارة موجودة حتي الآن داخل دير السريان الملاصق لدير الأنبا بيشوي ؛ وكان وقتها يدخل في زمام دير الأنبا بيشوي . ولقد أنتشرت سيرته العطرة في كل مكان فتقاطرت اليه جموع الرهبان من كل مكان تطلب التتلمذ علي يديه .فصار أبا لرهبان كثيرين ؛وأشتهر عنه النسك والعفة في محبة المال . كما أشتهر بإضافة الغرباء في ديره ؛وتروي عنه كتب التاريخ أنه ذات مرة ظهر له السيد المسيح علي هيئة رجل غريب فطلب منه الدخول إلي الدير ليستريح قليلا ؛ وعندما دخل قال له "يا مختاري بيشوي يا ذا الشيخوخة الكريمة "فعرف أنه السيد المسيح ؛ فقام وسجد له ؛ثم أعد أناء به قليل من الماء ليغسل به قدمه ؛ وهذا هو سر الأيقونة الشهيرة التي توجد في بعض الأديرة له وهو يغسل قدمي السيد المسيح ؛ومن أشهر القصص عن ظهور السيد المسيح له ؛أنه ذات ليلة طلب الرهبان من الأنبا بيشوي أن يطلب من السيد المسيح أن يظهر لهم جميعا حتي يروه ؛ فحدد لهم يوم وساعة معينة يظهر لهم فيها فوق الجبل ؛
فهرع جميع الرهبان في الموعد المحدد إلي الجبل ؛وفي الطريق تقابلوا مع شيخ مسن ؛فطلب منهم أن يحملوه حتي يري معهم السيد المسيح ؛فأنتهره الرهبان وقالوا له "لا تعطلنا عن رؤية المسيح " ؛ونظرا لشيخوخة الأنبا بيشوي كان أبطأ منهم في الصعود إلي الجبل ؛فرأي الشيخ المسن هذا ؛وطلب منه أن يحمله ليري معهم السيد المسيح ؛فوافق الأنبا بيشوي وحمله بالرغم من شيخوخته وضعف صحته ؛ وعندما حمله لأول وهلة وجده خفيفا جدا كمثل الريشة ؛ولكنه لاحظ أن وزنه أخذ يثقل قليلا قليلا ؛فتيقن أن هذا شخص غير عادي ؛وفجأة لمح آثار المسامير في قدمه ؛فتيقن أنه السيد المسيح بنفسه هو الذي يحمله ؛وعندها قال له السيد المسيح "لأنك حملتني يا حبييبي ومختاري بيشوي ؛فأن جسدك لن يري فسادا إلي الأبد " ولهذا السبب لقب القديس الأنبا بيشوي بـ " الرجل الكامل حبيب مخلصنا الصالح " ؛وتوجد بعض الأيقونات ترسمه وهو حامل للسيد المسيح .( في التراث الأوربي يوجد قصة مماثلة عن شخص يدعي "روبروس "ومعناه "عديم القيمة " وكان قوي البنيان جدا ؛ فلما آمن بالمسيحية ؛ولما كان عديم المواهب غير قادر علي الوعظ والخدمة والصلاة ؛طلب منه أحد النساك أن يستغل قوته الجسدية و يقف أمام النهر ؛ويساعد علي حمل كل من يريد عبور النهر ؛وذات ليلة شاهد طفلا صغيرا يطلب منه عبور النهر ؛فحمله فوق كتفيه ؛ولكنه لاحظ أنه أخذ يثقل عليه رويدا رويدا حتي كاد يغرق في النهر من شدة الثقل ؛ولكنه استطاع عبور النهر بصعوبة شديدة ؛وعندما وضع الطفل علي الضفة الأخري للنهر؛أدرك أن هذا الطفل غير عادي ؛ فأعلمه أنه هو السيد المسيح ؛ومن الآن سوف يكون أسمه "كريستوفر "أي حامل المسيح " وهو شفيع المسافرين بالسفن في أوربا ) وفي عام 408 م تقريبا ؛حدث هجوم من البربر علي برية شيهيت ؛فأقترح الانبا بيشوي علي صديقه القديس الانبا يحنس القصير أن يهربا ليس خوفا من الموت ؛ ولكن لئلا يذهب واحد من هؤلاء البربر إلي الجحيم بسببهم ؛وفعلا هرب الانبا يوحنس إلي جبل القلزم بالبحر الأحمر ؛بينما هرب الأنبا بيشوي إلي جبل أنصنا (قرية الشيخ عبادة بملوي حاليا حيث يوجد دير البرشا ؛ ولنا عودة إليه في نهاية المقالة ) ؛وهناك أرتبط بصداقة قوية مع القديس الأنبا بولا الطموهي (وهو بالطبع غير القديس الأنبا بولا أول السواح والذي يوجد ديره بالبحر الأحمر ) وظل الانبا بيشوي في غربته بجبل أنصنا حتي توفي هناك في يوم 8 ابيب الموافق 15 يوليو 417 م ؛ أي أنه عاش حوالي 97 عاما تقريبا ؛وبعدها بقليل توفي الأنبا بولا الطموهي . وفي عصر البابا يوساب الأول( 830- 849 ) البطريرك ال52 من بطاركة الكنيسة القبطية وتحديدا في عام 841 م ؛ تم نقل جسده الطاهر من أنصنا إلي برية شيهيت ؛ونقل معه جسد صديقه الأنبا بولا الطموهي إلي ديره ببرية شيهيت حيث مازالا موجودين هناك في أنبوبة واحدة كبيرة تحوي الجسدين معا وتوجد بالكنيسة الأثرية بالدير .
أما عن ديرالأنبا بيشوي ببرية شيهيت ؛ فهو يرجع إلي القرن الرابع الميلادي ؛حيث عاينه أبو مقار الكبير بنفسه ؛ولكنه تعرض للهدم والتخريب كثيرا ؛ ولقد زار الدير العالم الإلماني الشهير تشيندروف (وللعلم هو مكتشف المخطوطة السينائية للكتاب المقدس الحفوظة حاليا بالمتحف البريطاني ) عام 1844 ؛ولم يجد بالدير إلا أربعة رهبان فقط ؛ ويصف رئيس الدير في ذلك الوقت أنه كان رجلا عجوزا يبلغ من العمر حوالي 120 سنة ؛ وكان يجلس طول النهار علي دكة يرتل بصوت عال ؛وقد ذكر عنه "وقد زرته في قلايته بمجرد أن سمعت صلاته التي لا تنقطع ؛وعند رحيلي من الدير جاء مستندا علي عصاه وظهر لي أنه يتكلم بذكاء تام ؛ وقد أثرت في بركة هذا الشيخ تأثيرا عميقا " . كما زاره المؤرخ الانجليزي المعروف ألفريد بتلر ( 1850- 1936 ) وكان ذلك حوالي عام 1883 تقريبا ؛ وقال عنه "كنا قد سمعنا أن بدير الأنبا بيشوي أحسن بئر للمياه في الأديرة الأربعة ولذلك قررنا أن يكون مركز قيادتنا لبقية رحلتنا ولم ندم قط علي هذا القرار " كما زاره الأمير عمر طوسون وكتب عنه في كتابه الشهير عن وادي النطرون الذي صدر عام بالفرنسية عام 1931 ؛وترجم إلي اللغة العربية عام 1935 (وقد صدرت عنه طبعة خاصة في مكتبة الأسرة عام 2009 )
ويوجد بالدير أربع كنائس هم "كنيسة الأنبا بيشوي ؛ كنيسة الشهيد ابسخيرون ؛ كنيسة البطريرك بنيامين ال 38 ؛وكنيسة مارجرجس . كما يوجد كنيستان بالحصن الأثري علي أسم الملاك ميخائيل ؛وكنيسة أخري علي أسم السيدة العذراء "وقد تخربت حاليا بقعل عوامل الزمن" . ويوجد في حديقة الدير بئر أثري يقول عنه التقليد أنه البئر الذي غسل فيه الجنود دماء التسعة والأربعين شهيدا شيوخ برية شيهات . كما يوجد في كنيسة الشهيد ابسخيرون معمودية أثرية يقول عنها التقليد الرهباني أنها المعمودية التي عمد فيها القديس الأنبا موسي الأسود(وتذكار استشهاده 24 بؤونة الموافق 1 يوليو ) .
أما عن دير البرشا ؛ فلقد ذكره الرحالة فانسليب في تقريره الذي صدر عام 1671 ؛وقال عنه " في مدينة أنصنا نحو الشرق ديران ؛الأول للقديس يوحنا الصغير ؛ويدعونه هم أبو حنس القصير ؛والثاني للطوباوي أبا بيشوي " وقال عنه أيضا " زرت بعد ذلك الكهوف التي تقع بجوار دير الأنبا بيشوي بحوالي ميل ؛ وبها كتابات هيروغليفية وصلبان مرسومة باللون الأحمر كبيرة نوعا توحي بأن المكان كان كنيسة قبلا وقبلها كانت مغارات فرعونية وبعضها مهدم تماما " أما الرحالة الفرنسي كلود سيكار ؛ فلقد زار أديرة الصعيد عدة مرات ؛منها مرة عام 1714 ؛ومرة ثانية عام1716 ؛ثم زارها عدة مرات خلال الفترة من" 1720 – 1726 ".ويذكر عن دير البرشا أنه يقع بين أطلال مدينتين متجاورتين متميزة الواحدة عن الأخري . وجاء عنها في كتاب "وصف مصر "الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية ."دير الأنبا بيشاي (صحته بيشوي وليس بيشاي ؛فبيشوي بالقبطية معناها سامي ؛أما بيشاي فمعناه عيد ؛وهو القديس صاحب الدير الأحمر بأخميم ) أسم لحوش كبير يضم كنيسة مسيحية بجانب دير النخلة جنوب دير أبو حنس الذي يلامس أنقاض جنوب أنصنا .وشرقه توجد كمية كبيرة من مقابر مسيحيي ملوي والبياضية ..... والكنيسة تعتبر من أجمل الكنائس التي رأيتها بمصر .... كما رأيت هناك 4-5 أيقونات ليست بجودة الكنائس الأخري واحدة للانبا بيشاي"بيشوي " قديس المكان وعليها أسماء أخري للقديس مارجرجس . وعلي الأرفف كتب كثيرة بعضها بالعربي وبعضها بالقبطي " .
وتبقي كلمة أخيرة عن البطاركة الذين تخرجوا من دير الأنبا بيشوي ببرية شيهيت ؛ فلقد تخرج منه ثلاثة من الأباء البطاركة هما البابا غبريال الثامن البطريرك ال97 من بطاركة الكنيسة القبطية ( 1587- 1603 ) والبابا مكاريوس الثالث البطريرك ال 114 من بطاركة الكنيسة القبطية ( 1944- 1945 ) ولقد أهتم قداسة البابا شنودة الثالث – نيح الله نفسه في فردوس النعيم – بهذا الدير اهتماما كبيرا روحيا ومعماريا ؛ والحديث عن جهود قداسته في تعمير هذا الدير يحتاج إلي مقال مستقل . أما آخر أب بطريرك تخرج من هذا الدير العامر ؛ فهو قداسة البابا الحالي تاوضروس الثاني أطال الله حياته وثبته علي كرسيه سنين عديدة وأزمنة سالمة مديدة .