فاطمة ناعوت
أجرت إحدى القنوات الفضائية تجربة طريفة، مريرة. ارتدى شابٌّ ملابسَ نسائية فضفاضة وطويلة، وباروكة شعر، وسار فى شوارع القاهرة فى وضح النهار. ورصدت الكاميراتُ كمَّ المعاكسات والسخافات والتحرّش اللفظى والجسدى الذى تعرَّض له الشابُّ من «ذكور» فى ثياب رجال. ولم يتغيّر الحالُ حين غطّى الشابُّ شعرَه بإيشارب ليغدو: « فتاةً محجّبة». فى الاستوديو خلع الشابُّ ملابسَه التنكرية وتكلّم عن تجربته فى «جسد امرأة»: (يااااه! مكنتش أعرف قد إيه البنت بتتعذب عشان تمشى فى الشارع! عمرى ما فكّرت كرجل إن المشى فى الشارع مشكلة. لكن فى ثياب امرأة اكتشفتُ أن مشوارًا صغيرًا هو رحلة «عذاب حقيقية»). انتبهوا أيها الأعزاء إلى أن هذا الشاب قد وصف لنا: (المعاناة العملية) التى تخبرها النساءُ فى التحرك من مكان إلى آخر فى مجتمع لا يحترم المرأة. بينما من المستحيل أن يصف: (العذاب النفسى) الذى لا تعرفه إلا الفتاةُ ذاتُها. خليطٌ مرير من الشعور بالمهانة والرِّخص والخوف والإذلال والرغبة فى صفع المتطاول والرعب من ردّة فعله، والخوف من الشكوى للأم والأب والأخ والشرطة، لأن الإجاباتِ الحتمية ستكون: (خلاص اقعدى فى البيت ومتخرجيش تانى. مش قلنا متخرجيش؟! مفيش خروج تانى. البنت مكانها البيت. أنتِ اللى غلطانة بتخرجى وحدك ليه؟! بعد كده مفيش خروج إلا مع أخوكى…) من النادر أن تتوقع الفتاةُ كلامًا من الأهل من قبيل: (امشى بثقة رافعةَ الرأس ولا تهتمى، فالكلاب تعوى وتسيرُ الأميراتُ!). فهى مُدانةٌ من أبيها وأمّها وشقيقها والمجمتع، مثلما هى مُدانةٌ من الذئاب الذين تحرّشوا بها، مثلما هى مُدانةٌ من أدعياء الدين الذين يملأون عقولَ الشباب بترّهات رخيصة من قبيل: (البنت بتستفز ذكورتى بملابسها!) وكيف تستفزُّ المحجبةُ والمنتقبة والطفلةُ ذكورتَك أيها «الذكر» الذى لا كابح لغزائزه إلا الإخصاءُ والمصحاتُ العقلية والسجون؟!، ومتى تتعلّم أن تكون «رجلا» نبيلا، لا «ذكرًا» هائجًا؟! وكيف تزعمُ «القوامةَ» على المرأة؛ بينما لا قوامةَ لكَ على غرائزك؟!.
نشر لاعبُ الكرة «عمرو السولية» صورة له مع طفلته «ليلى» (٣ سنوات). وانهالت التعليقاتُ المسعورة تنهش فى جسد الصغيرة التى فى خُطى تعرُّفها الأولى على الحياة. شتائمُ وبذاءاتٌ تنال من شرف الرجل والطفلة لأن كتفها النحيلَ ظاهرٌ! وتحرشاتٌ رخيصة تشتهى الجسدَ الذى بعدُ لم يكتمل!، وتوعّد الأبُ أولئك المسعورين بالملاحقة القانونية. ولستُ أدرى كيف قرأتِ الصغيرةُ ذاك المشهد العجائبىّ، وكيف يمكن أن ينالَ من وعيها بعالم مريض مازالت تتحسّسُ الطريقَ لكى تطرق أبوابَه بعدما تنضجُ مع الأيام وتغدو صبيّة، ثم فتاة ثم شابّة؟!.
تلك الظاهرةُ الخطيرة فى مجتمعنا، لا يقفُ وراءها غيابُ القيم وتشوّشُ مفهوم الأخلاق فى عقول أبنائها، وحسب، بل نشيرُ بإصبع الاتهام الغاضب إلى عيون «مشايخ ضلاليين» أوهموا النشء بأن الفتاة «ترغبُ فى إغراء الرجل»، وأنها «مركزُ غواية متحرّك»، وأن «الرجل مسكينٌ، ماذا يفعل أمام غواية المرأة اللعوب؟!»، وغيرها من قاذورات القول التى يدسّها متطفلون على المنابر فى رؤوس شباب شاغرة رؤوسهم من العلم والدين، فيخرجون إلى الساحات يلاحقون الصبايا ويخرّبون المجتمع.
التحرشُ قضية «أمن قومى»، لا بد أن تتضافر قوى المجتمع المدنى بأكمله لكى تواجهها بحسم. التعليمُ والإعلامُ والسينما والتليفزيون والأسرةُ والقضاء والشرطة والشارع المصرى، الذى نحلم بأن يعود إلى سابق عهده نظيفًا أنيقًا طيّبًا وآمنًا، مثلما كان قبل سموم الغزو الوهابى الذى اختصر التدين فى «ملابس المرأة»؛ ليخلق ثقاقة شكلية منافقة أغفلت «جوهر» النظافة والتُقى والتحضّر وقيم التهذّب السلوكى واللفظى التى تحثُّ عليها جميع الأديان حين يأمرنا كتابُنا: «قلْ للمؤمنين يَغُضّوا من أَبصارِهم»، وحين يؤكد الإنجيلُ أن سقوط المرء يبدأ وينتهى من عينيه، وليس من الآخر: «فإن كانت عينُك اليمنى تعثُرك، فاقعلها عنك». الفضيلةُ تكمن فى «الفاضل»، وليس فى «ملابس النساء»، والأخلاقُ الرفيعة تسكن «ذا الأخلاق»، وليست رهنًا بما تلبسُ الصبايا.
علينا أن نخجل من آبائنا وأجدادنا الذين عرفوا الفضيلةَ واحترموا النساء مهما كانت ملابسُهن. فى ذلك الزمن النظيف، كانت أمى تخرج بالكعب العالى والملابس الأوروبية الأنيقة، وتضع الفُرير حول كتفيها، دون أن تتفرّس فى جسدها العيونُ الجائعةُ، ودون أن ترميها الألسنُ البذيئة بخادش القول، ودون أن تخشى من تحرّش أو اغتصاب أو بذاءة. كانت الأرواحُ لا تتصدعُ ولا العيونُ تشمئز، ولا الآذانُ تنفرُ، ولا النساء يخفن، لأن المجتمعَ كان نظيف الروح والعقل والبدن. وللحديث بقية.
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترم الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم