محمد حسين يونس
بعد سقوط الملك و كبار ملاك الأرض .. و أصحاب المصانع الكبرى ..لم يعد هناك من يحكم مصر إلا شرائح مختلفة من الطبقة المتوسطة ..بكل عيوبها .. و ترددها .. و قصر نظرها و عدم قدرتها علي التخطيط طويل المدى .. الحصيلة النهائية أن نظام الحكم بأوجهه المتعددة .. قد فشل في اللحاق بقطار الحداثة ..وترسية مجتمع ديموقراطي .. منتج .. قادر علي المساهمة بالجهد و العلم في التقدم الإنساني ..
و لم ينجح في تحقيق الأهداف التي كان يطمع الشعب المصرى في تحقيقها و هو يشاهد أخر جندى بريطاني يغادر بورسعيد ..
أسباب فشل الطبقة الوسطي في تحقيق التكليفات التي أوكلت لها بعد إنقلاب ضباطها علي الملك و الباشاوات الإقطاعيين .. تعود الي منابع الفكر الذى إستقوا منه مبادئ سلوكهم وسياستهم...فثقافة ابناء الطبقة الوسطي وتوجهاتها وأمانيها وحلولها كانت في أغلبها مستوردة
ولهذا مبررات منطقية أولها ذاتي ، بمعني أن هذه الطبقة بحكم أصول نشأتها ارتبطت بالاستعمار الاوروبي وضمت العديد من المتمصرين الذين متــَّنوا من قوى هذا الارتباط فجاءت ..طبقة تابعة عقيمة الخيال غير قادرة علي الابتكار ومراكمة الخبرة (كما حدث في اليابان والهند والصين ) بل حرصت علي التقليد والنقل (فيما نسميه عقدة الخواجة)
والثاني خارجي فالتغيرات التي شهدها العالم من حولها كانت جذرية وعميقة وكان من الصعب علي طبقة هشة مثلها حديثة التكوين تعتمد في الاساس علي السلطة التي يمنحها لها كرسي الوظيفة ،فلم تستطع الفكاك من هذه التغيرات فدارت في فلكها .
وهكذا عندما إنتهت الحرب العالمية أى حول منتصف القرن الماضي ..كانت هناك أربعة تيارات ثقافية مستوردة تحكم فكر وتوجهات الطبقة الوسطي المصرية وكلها دون استثناء رحبت بإنقلاب الضباط .
التوجه الرئيسي والكاسح بين مثقفي الطبقة كانت الافكار المتصلة ب (القومية الاشتراكية).. سواء تلك المرتبطة بتاريخ مصر الذى تعرفوا عليه حديثا بعد فك طلاسم اللغة القديمة .. او نقلا عن مثقفي الشام والعراق الذين عانوا من سحق الهوية العثماني فإخترعوا في مواجهتها (القومية العربية ) أو بسبب أن الصعود المذهل لتركيا الفتاة والفاشيست الطليان والقومية الاشتراكية الالمانية (النازية ) رسب في فكر وقناعة شباب الطبقة أن مقاومة الاستعمار والتغلب علية والابحار الي المياة الدولية العميقة يرتبط بسيادة فكر وأسلوب التنظيمات الفاشيستية كأحزاب (مصر الفتاة) او (الاخوان المسلمين) و(الوطني..فتحي رضوان ) وكل حزب كانت له مليشياته وتنظيمات داخل الجيش والشرطة يستعرضها ويرهب بها الآخرين .
التيار الآخر الأقل في قوته كان الماركسية أو الشيوعية الأممية المرتبطة (بستالين) الذى حقق إنتصارا ساحقا علي الالمان وظل يطاردهم حتي دخل برلين ..
لقد كانت هناك أحزاب شيوعية لها خلاياها علي أرض الواقع تؤمن بان (علي عمال العالم أن يتحدوا) ورغم مطاردة الملك لهم والانجليز الا أنهم كانوا يأملون أن يبنوا وطنا علي شاكلة سوفيتات (ستالين) ويحققون مثل إنتصاراته علي الامبريالية العالمية ولكنهم للاسف لم ينجحوا الا في تقليد هيئته وزيه وأسلوبه في التعالي علي الامبرياليين.. وإنتهي الامر بهم بناء علي توجيهات خورشتشيف إلى الاندماج في الاتحاد الاشتراكي والتنظير له
التيار الثالث كان تيارا سلفيا مسيحيا و اخر إسلاميا .. يرى كل منهما أنه علينا الحذر من الغرب و تبعيته وأن علينا أن نقيم مجتمعا له خصوصية (يراها كل تيار بتصوره ) ..
المسيحيون يرون انهم اقباط وعليهم التمسك بكنيسة تضم عشرة اوعشرين مليونا و تجنب أن تبتلعهم كنايس تضم المليارات فتقوقعوا علي ذاتهم متمسكين بالأصول ..دون أى تطوير.
اما المسلمون فقد كان تيارهم السلفي ضعيف الصوت مرتبط بافكار مستوردة (أيضا) من الخارج روجها أبو الأعلى المودودي بين المسلمون الهنود (الباكستان ) والافغان ورعاها (ابناء عبد الوهاب ) في الجزيرة العربية ولم تجد في مصر الا الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة لينتشر بينها فكرهم مسيطرا علي أفرادها بواسطة المساعدات الاقتصادية والاجتماعية (التي كرست في النهاية انفصاما مذهبيا لا زال قائما بحدة بعد أن تدخلت اموال الخليج تدفق بكرم مشكوك في دوافعه)
الاسلام السلفي حرص ان ترتبط (اى المساعدة) بأداء من ينالها لكل المهام والتكليفات الطقسية حتي يظفر بها .
اما التيار الليبرالي الذى تبناه حزب (الوفد) و رواد مثل شبل شميل وسلامة موسي وطه حسين ولويس عوض .. فلقد كان الجميع ينظرون إليه بارتياب علي اساس انه (خصوصا بعد تضخيم أحداث 4 فبراير 1942 الشهيرة ) يتوافق مع الاستعمار و أعوانه و فلسفاته و حرياته المشكوك في صلاحيتها ( في تصورهم ) لمجتمع مغلق لم يشف بعد من آثار إنغلاق الفقهاء ..
الوفد بليبراليته إتخذ موقفا منكمشا من الاحداث ثم إنتهي الي حزب له عنوان الوفد ولكن ينقصه أهداف الوفد .. وقيادة آخر الزعماء الشعبيين مصطفي النحاس
ومع ذلك ورغم أن الضباط بدأوا تاريخهم بتعطيل الدستور والحياة البرلمانية والسياسية وحل الاحزاب وتجريمها وشنق بعض العناصر العمالية( خميس و البقرى ) الا أن الجميع صفقوا بشدة لقوانين الاصلاح الزراعي (الذى كان قد تم إعداده من قبل بواسطة حكومة الوفد ) و تأميم ممتلكات الاجانب و تمصير البنوك والتجارة والصناعة و الخدمات( التي كانت معدة ايضا من قبل بواسطة رجال الغرف التجارية ) وكانوا مستعدين (رغم الاخفاق المستمر في حل المشاكل المزمنة التي كلفتهم بها طبقتهم يوم تنصيبهم حكاما ) منذ 54 وحتي منتصف الستينيات لاعتبار الضباط الوجه المناسب الذى تقدمه الطبقة الوسطي للحكم .. لولا العثرات المتتالية التي اضعفت النظام .
بدأت العثرات الاولي مع الهزائم العسكرية في معارك ضد الصهاينة المحتلين فلسطين منذ 1947 ( وإعتبر الشعب أن الذى هزم هو الملك وأسلحته ) ثم هزيمة أخرى في بورسعيد عام 1956 ( وإعتبرها الشعب إنتصارا بعد تهديد بولجانين وأوامر أيزنهاور وإنسحاب العدوان ) .. ولكن مع عام 67 وهزيمتين في اليمن و سيناء إنتهت علاقة الطبقة الوسطي الطيبة ..بعسكر الانقلاب ..
لتسقط الطبقة ممثليها (الناصريين بتوجهاتهم الفاشيستية) وتبحث عن وجوه أخرى(إنفتاحية تتوافق مع السيد الجديد الامريكي ) لديها القدرة علي أن تحتفظ للطبقة بمكاسبها منذ زمن إسماعيل حتي أيام الفاروق .
ولكن للاسف، كما تفسد السمكة من الرأس أفسد الوجه الآخرللطبقة المتوسطة المهزومة مجتمعها إفسادا كاملا كان من الصعب أن يقوم به أعدى أعداء الوطن.
شعب كامل أصابة حكم (البرجوازية الصغيرة ) من العسكر و رجال الدين بالتوهه و تحول مشروع الخروج من مستنقع الانكشارية العثمانية و المماليك إلي تغيرسطحي في الشكل و إستمرار المضمون بفضل سموم يطلقها رجال الزوايا و مدارس الاحد تشيع الفرقة و التعصب و التحزب و تؤيد الاستبداد وتمنع تحديث النظام و تفشي التواكلية وعدم الثقة في النفس .. و الاستسلام للغاصبين إما بإدارة الخد الايسر أو بالرضوخ لاولي الامر منكم .
ومنهم من إحترف إنشاد قصائد المدح ..فإتجه إلى الحكام .. يكيلنها لهم ويخدم المصالح بإخلاص باد وقد ينال كرسيا أو منصبا أو عصا غليظة يستخدمها في تحقيق أهداف تربح تتراوح بين الستر و حيازة المليارات ..
هذا الطابور ضم أساتذة جامعات حاصلين على الدرجات التي قد تكون مزورة .. ورجال أمن( بعضهم سلفي الفكر أو إنتهازى المقاصد ) .. ورجال تجارة (بيزنيس) .. وصحافة وإعلام غير ناضج .. ورياضيون خاصة لاعبي كرة القدم .. و متعهدى تشهيلات الانتخابات وتمييع القضايا ...
داخل الطابور كان هناك صراع في سبيل الاقتراب من بؤرة الضوء .. فهناك فارق كبير بين الذى يجلس علي كراسي السلطة .. و بين من تلسعه كرابيجها .. وكم سقط منهم نفر وهو يناضل لتخطى حواجز مكانه.
الثوب الذي ضم شرائح عريضة من الشباب خصوصا القادمين من أسفل السلم. كان النصب والتدليس .. و محاولة الإرتقاء بالنسب أى الزواج من إبنه رجل مهم
المتعلمون في بلادنا تم إتلافهم تماما .. سواء بعلوم أصبحت من قبيل التاريخ أو التراث ولا فائدة منها .. أو بالتسطيح عن طريق تغليب الحفظ على الفهم .. والصيغ المقولبة بدلا من الأفكار التي تم استنباطها وتطويرها من خلال التجربة والمعمل ...
ثم قامت وسائل الإعلام .. والمؤسسات الدينية .. بتكريس ما تعلمه (أوما لم يتعلمه) والمجتمع في تغليب المادة على الفكر .. ليصبح لدينا أكواما من الحاصلين على الشهادات المتوسطة والعليا وما بعد العليا .. دون أن ينمو في مقابلها توجهاتهم الاجتماعية والفكرية والاستنباطية .. وكسر المألوف للتقدم خطوة تالية نحو الحداثة.
أما مثقفو التنوير الذين كانوا في يوم ما نورا ونارا .. فلقد همدت الشعلة تحت رماد كثيف اسمه لقمة العيش والنفوذ في وزارتي الإعلام و الثقافة .. و.. توقفت الماكينة التي أنتجت الرواد .. والعلماء ... والفنانين .. وبدأت في إنتاج موظفين بدرجة مثقف
ما السبب في التدهور الذى أصاب الطبقة الوسطي من المصريين
حكام مصر مع بداية الستينيات كانوا علي قناعة بان رأسمالية الدولة القومية الاشتراكية (في خلط مُخِل بين النظام النازى الهتلري والنظام الستاليني ) الذي يرتدى عباءة القومية العربية والتفوق المصرى العنصرى هو نظام الحكم الثورى الذي يناسب هذا الشعب القاصر الذى لا يدرى ماهية مصالحة .
وأن هذا الفعل الثورى يستلزم كتم اى صوت يعلو علي صوت السيد الجديد (اول مصرى إبن صعيدى) يحكم مصر .. بالإعتقال و السجن و التعذيب .. و التجويع بالطرد من العمل .. أو التقتير في العطاء .
وأن السيد كفيل بتقديم الغذاء و الكساء و المسكن والترفيه والتعليم لكل الأبناءِ الذين اصبح في رقبته مهمة إسعادهم ..
ولكي يقوم بهذا أصبحت جميع وسائل الانتاج ومصادر الدخل تحت إدارته المباشرة وفرضت السلطة رعايتها الأبوية علي الجميع بما فيهم من تم تجريدهم من ممتلكاتهم بل أحدثت تغيرا جذريا في مكونات الطبقة بحيث وسعتها وميعتها لتصير تحالف قوى الشعب العامل الذى تعيش فيه (( كل طايفة من التانية خايفة و تنزل ستاير بداير وشيش )) كما غني الشيخ إمام .
القطاع العام والقوى العاملة والاتحاد الاشتراكي تنظيمات نقلت بحذافيرها من نظام هتلر النازى بل المهرجانات والاحتفالات والاستعراضات العسكرية و أعياد الزهور ومعونة الشتاء وبث ودعاية هيئة الاستعلامات والكذب في الجرائد والاذاعة كلها هتلرية ولم يخجل السادات بعد ذلك من إرتداء أزياء الفوهرر و يسير بنفس طريقته ..تعبيرا عن تقديسه للشخصية المشؤومة .
فترة السبعينيات كانت البداية للسقوط المدويّ للطبقة .. لقد خلطت الاوراق وأنتجت جهازا بيروقراطيا متدني الكفاءة، فاسدا وأصبحت الرشوة والعمولة وإستغلال النفوذ وكل ما هو ملتوّ غير مشروع هو أسلوب الحياة في مصر قبل السقوط وبعد السقوط وقبل الانفتاح وبعد الانفتاح .
الطبقة الوسطي التي عرفناها قائدة في منتصف القرن العشرين تفسخت، تميعت، توحشت وأصبحت تضم عاهات تركها وجهين متتالين دفعت بهما للحكم كان كل ما يهم افرادهما هو الكسب خصوصا غير المشروع او المُتحَايَل عليه .
.لقد ترهل وفسد الجهاز الادارى ففسد المجتمع واصبح معرضا لهجوم أصحاب دولارات الجاز وشراء الذمم والتلاعب بالشعب باسم الدين .
فلنجمل الأمر إن الطبقة الوسطي التي نشأت مع إنفتاح إسماعيل ووالده علي اوروبا إكتسبت ثقافتها و إسلوب حياتها من نماذج مجتمعات خارجية وفقدت القدرة علي الابتكار والتطور وأصبح همها الأوحد هو الحفاظ علي كراسي الحكم بين براثنها تبدل الوجوه ببساطة فعندما تجد أن الجماهير علي وشك الكفر بقياداتها تقدم عبد الناصر بدلا من فاروق الفاسد والسادات بديلا لعبد الناصر المهزوم والمبارك العسكرى البطل بعد إغتيال المستسلم .. ليحافظ الأخيرعلي مصالحها بركود المجتمع وتحوله إلى بحيرة آسنة تمتلئ بالضوارى ، وعندما ينتهي صبر الشعب من سوء الاحوال تقدم الطبقة له طنطاوى وشلتة الميرى كوجوه منضبطة جديدة لتستبدل فورا بالمرشد وشلة منتفعيه على أمل أن يكون ممثل زقاق الاسلامجية في الشارع السياسي المصرى أكثر مهارة وقبولا ..
وعندما يحدث العكس وتقوم القيامة ضد سياسته الرجعية المتحجرة تقدم الطبقة وجه قاضي مبتسم ورئيس وزراء من الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ..
لنعيش فترة إنتقالية أخرى تلتقط فيها الطبقة انفاسها و تعيد تفنيط اوراق اللعب لتتحفنا بتشكيلة جديدة من وجوه ذات قبول عسي أن تهدأ ثائرة المهتاجين .
و في الغالب .. أصبح الأمر غير قابل للحلول التقليدية أى بتغيير الوجوه ،فالطبقة الوسطي بعد أن ظلت لستة عقود علي عجلة القيادة تحللت وتفككت الي ثلاث شرائح
الاعلى منها تمتلك المليارات المكتسبة من عرق الجبين (في النصب والاحتيال والالتفاف علي القوانين و إستغلال النفوذ )..وكلنا نعرف أن البعض منهم مرتبه الشهرى الرسمي يتجاوز المليونين و في بعض الأحيان أكثر مثل رؤساء مجالس إدارات الجرائد و شركات المقاولات والبنوك و البورصة والتليفونات علي سبيل المثال لا الحصر.
و شريحة أخرى تقفز وتصارع بكل الوسائل لتحصل علي مكسب ما من إستغلال وظائفها وهم كثيرون تراهم في جميع مؤسسات الدولة بدون إستثناء يسعون للحصول علي درس خصوصي من طالب غني او حتي فقير اومريض لعيادته او متقاضي لمكتبه او لرحلة للشانزليزية يكون فيها مصروف اليد مناسبا ،
أما الثالثة فلقد توقفت عن السعي بعد أن عجزت عن الإلتحاق بقطيع الذئاب فقررت تعطيل المراكب السايرة ..
الشرائح الثلاث عاجزة عن إحداث تغييرراديكالي فلقد فسدت (حتي لو قال البعض أن الرأسمالية العالمية بدأت بالفساد ). معلنة أن زمن حكم الطبقة الوسطي قد إنتهي و أن حكم شريحة المليارديرات قد بدأ في تشكيل طبقة جديدة تستطيع شراء وحدة سكنية بعشرات الملايين من الجنيهات (الفالصو ) . .. (إلي اللقاء باكر )
#دفتر_إنكسار_أهلك_يامصر