18 ـ أشربه معكم "جديداً" فى ملكوت أبي
كمال زاخر
الإفخارستيا والروح القدس:
"الكنيسة وقد كمُل فداؤها صارت تحيا بالروح القدس فى عهد مصالحة مع الآب"، "والمسيح وقت العشاء لم يكن قد أكمل الفداء والمصالحة، وبالتالى لم يكن بدأ عمل الروح القدس فى الكنيسة للميلاد الجديد والحياة الجديدة، لذلك قال (المسيح) أنه لا يشربه من الآن حتى يشربه (معهم) جديداً، أى عندما يصير التلاميذ على مستوى الحياة الجديدة بالقيامة وبعطية الروح القدس."
"والجديد أو الجدّة هى دائماً إشارة إلى عمل الروح القدس فى الخليقة، والخليقة الجديدة هى خليقة روحانية، والميلاد الجديد هو الميلاد من الروح، والعهد الجديد أى عهد الله مع الخليقة الجديدة، وجدّة الحياة هى الحياة الروحانية، هوذا الكل قد صار جديداً" (2كو 5 : 17).
"لذلك فكلمة (الجديد) أو (التجديد) تفيد إعادة صياغة أو ميلاد أو خلقة الشئ على أساس روحانى بعمل الروح القدس".
وينبهنا الكاتب إلى جوهر التناول "حيث كل من يتناول من الإفخارستيا الآن (بعد القيامة وحلول الروح القدس)، يأخذ لا جسد الرب ودمه فقط، بل أيضاً الرباط الذى يربطه بهذا الجسد عبرَ الزمن والحياة اليومية؛ هذا الرباط هو الروح القدس الذى يهبنا قوة القيامة ويوحدِّنا بجسد المسيح لنحيا دوماً فيه ومعه معلناً حقيقة ملكوت الله فى داخلنا".
وقد ادركت الكنيسة هذا الأمر وترجمته فى صلوات القداس، التى يصليها الكاهن قبل الخدمة ويصليها قبل التناول مباشرة من الأسرار، لنوال قوة وموهبة الروح القدس.
ويورد الكاتب نصوصاً من هذه الصلوات كما وردت فى القداس المنسوب للقديس مرقس الرسول،
* "يصلى ـ الكاهن ـ وهو واقف خلف حجاب الهيكل أمام المذبح، سراً، قبل أن يبدأ صلاة الصلح:
[أعطنى يارب روحك القدوس، النار غير الهيولية (غير المادية) غير المُدركة، التى تأكل كل ضعف وتحرق كل اختراعات الشرور، لكى يميت كل أعضاء الجسد على الأرض، ويُلجم كل حركات الفكر التى تقوده إلى الخيالات المملوءة أوجاعاً وآلاماً، وكما يليق بالكهنة يجعلنى فوق كل فكر ميت ويهبنى كلمات التقديس ... لكى أكمِّل هذا القربان الموضوع الذى هو سر جميع الأسرار بمعونة وشركة مسيحك.]
* ومن نفس القداس ينقل لنا الكاتب صلاة استدعاء وحلول الروح القدس والتى يصفها بأنها "من الصلوات النادرة والعميقة، والتى لا يوجد لها نظير فى جميع القداسات قاطبة" ونصها:
[إرحمنا يا الله ضابط الكل، وأرسل إلى أسفل من علوِّك المقدس ومن السماء محل سكناك المهيَّأ ومن حضنك غير المحدود، ومن عرش ملكوت مجدك، الباركليت روحك القدوس الكائن بالأقنوم غير المنقسم ولا متغير، الرب المحيي الناطق فى الناموس والأنبياء والرسل، الموجود فى كل مكان، ولا يحويه مكان، الذى بإرادته وسلطانه، وليس كالخادم، إنما بحسب مسرتك، يصنع تقديساً على الذين يرتاح (يُسرّ) فيهم، البسيط فى طبعه والمتعدد الأنواع فى عمله، ينبوع النعمة الإلهية، الواحد معك بالجوهر، والمتبثق منك، شريك عرش ملكوت مجدك مع الابن الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كلنا يسوع المسيح. أرسله علينا نحن خدَّامك، وعلى هذه القرابين الكريمة الموضوعة (الحاضرة) أمامك، على هذا الخبز وعلى هذه الكأس، لكى يتقدسا ويتحولا (ينتقلا). ولكى هذا الخبز يجعله جسداً مقدساً للمسيح، وهذه الكأس أيضاً دماً كريماً للعهد الجديد الذى له.]
ويذهب الكاتب إلى قداس القديس باسيليوس وينقل لنا ما يصليه الكاهن قبل التناول مباشرة وهو خاضع برأسه أمام الله :
[نسأل ونطلب من صلاحك يا محب البشر لكى تطهرنا كلنا وتوحِّدنا فيك، بواسطة اشتراكنا فى أسرارك الإلهية لكى نصير مملوئين من روحك القدوس...]
ويأخذنا الكاتب معه ويطرق أبواب الكنيسة السريانية ـ شريكنتا فى الإيمان ـ لنقرأ معه ما تقوله فى قداس يعقوب الرسول فى التقديس على الكأس :
[وهكذا بعد العشاء أخذ الكأس ومزجه من خمر وماء. ونظر إلى فوق نحو السماء، وقدمه (أظهره) إليك يا ألله أباه، وشكر وبارك، وقدَّس، وملأه بالروح القدس، وأعطاه لتلاميذه القديسين المباركين قائلاً ...].
ويعقب الكاتب قائلاً : الواقع أن هذا قد يُفهم ضمناً فى القداس الباسيلى عند قوله على الكأس "وقدسه"، أليس هذا معناه أنه ملأه بالروح القدس!.
وينتقل الكاتب إلى بستان الآباء الذى يستريح فيه منذ أن انطلق إلى البرية سعياً لاقتراب حميمى من "الكلمة" والتنقيب عن أسرار الملكوت،وفيها، ليقطف من أثمارهم، فيما يدعم المعنى الذى احتشدت به صلوات القداسات.
ـ القديس أفرام السريانى: [لقد دَعا الخبز جسده الحى وملأه بنفسه وبالروح ... خذوا كلوا بالإيمان، ولا يشك أحد أنه جسدى، وأن كل من من يأكل منه بإيمان يأكل فيه ناراً وروحاً، كلوا منه كلكم، كلوا فيه الروح القدس لأنه جسدى بالحق.]
ـ الأب ثيئوذور أسقف المصيصا (410م): [إن الكاهن يصرخ قائلاً "القُدسات للقديسين" لأن هذا الطعام مقدَّس وغير مائت، لأنه جسد ودم ربنا ومملوء قداسة بسبب الروح القدس الذى يسكن فيه.]
ـ القديس هيبوليتس: [لكى تمنح جميع من يتناولون منه أن يصيروا واحداً، ولكى يتكلموا بالروح القدس.]
ـ ثم يختتم الكاتب استشهاداته بتاج الآباء القديس بولس الرسول: "لأننا سقينا روحاً واحداً" (1كو13:12)، كإسرائيل قديماً وهم فى الصحراء: "أكلوا جميعاً طعاماً روحياً واحداً وشربوا شراباً واحداً روحياً" (1كو10: 3و4).
ولا أخفيك سراً عزيزى القارئ أننى توقفت كثيراً أمام النتيجة التى انتهى اليها كاتبنا، فقد حسبته مازال يعيش بيننا بالجسد يرقب بحزن ما يدور من جدل سقيم، وما وصلنا إليه من عوار استقر فى أذهان الكثيرين، دعونا نقرأ معاً وننتبه لما ينبهنا إليه بعيداً عن صخب اللحظة:
[وهكذا ينبغى أن يعود إلينا فكر الآباء وروح الإفخارستيا الحقيقى لأن الروح القدس عندما نناله فى الإفخارستيا فهو الذى يحقق لنا حياتنا الأبدية من خلال حياتنا الأرضية، ويجعل أقوالنا وأفكارنا وأعمالنا مطابقة لسيرتنا فى السموات: "فإن سيرتنا نحن هى فى السموات" (في 3 : 20).
هذا هو المعنى العميق الذى قصده الرب بقوله: "أشربه معكم جديداً" أى فى إفخارستيا يعمل فيها الروح القدس لاستعلان ملكوت الله فى داخلنا ولبقاء اتحادنا بجسد المسيح السرى قائماً فى صميم التاريخ والزمن، بواسطة اتحادنا بالروح القدس من خلال الإفخارستيا أيضاً.]
ومازال الطرح مستمراً.