بقلم : يوسف سيدهم
كل التقدير للقيادة السياسية المصرية والرئيس السيسي علي تعاملها مع ملف سد النهضة الإثيوبي علي مدي السنوات الخمس الماضية وحتي الأسبوع الماضي, وما يتبع ذلك من تطورات وتداعيات… فقد التزمت بأقصي درجات الحكمة والتعقل وضبط النفس ولم تسمح بأن تستدرج في مهاترات أو معارك كلامية أو ترد علي استفزازات كان واضحا جليا أنها إنما تطلق في وجه مصر لجرها إلي ردود أفعال انفعالية تحسب ضدها في دوائر دولية ماتزال تقف متربصة بمصر وتتمني لها السقوط.
التزم الرئيس السيسي طوال تعامله مع ملف سد النهضة بالتأكيد بكل كياسة وصرامة علي قاعدة لا ضرر ولا ضرار.. ففي الوقت الذي تبارك فيه مصر حق إثيوبيا في إنشاء السد لتوليد الكهرباء لحساب خطط طموحة في التنمية, لا تفرط أبدا في حصتها من مياه النيل الأزرق- القادمة من هضبة الحبشة عبر السودان- طبقا لكافة المواثيق والمعاهدات الدولية- وآخرها اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015, تلك الحصة التي تعد كل قطرة ماء فيها بمثابة شريان حياة لأكثر من مائة مليون مصري.
ومنذ اليوم الأول لفتح ملف السد لم تفرض مصر أية وصاية علي إثيوبيا فيما يخص توليد الكهرباء, فمصر تدرك تماما عدم حاجة إثيوبيا إلي المياه لأي غرض آخر, وهي الدولة التي حباها الله بكميات هائلة من الأمطار تروي جميع أراضيها ثم تنحدر في كل اتجاه نحو سفح الهضبة الإثيوبية لتجري في مجاري الأنهار التي شقت تضاريس الطبيعة عبر مئات الآلاف من السنين وأعظمها علي الإطلاق رافد النيل الأزرق الذي يغذي نهر النيل شمالا مخترقا أراضي السودان ثم مصر ليبعث فيها الحياة ويخصب أرضها علي ضفتيه ويكسوها باللون الأخضر إيذانا باستقرار الإنسان المصري في الوادي وبزوغ فجر واحدة من أقدم وأعظم الحضارات البشرية التي عرفها العالم والتي دعت هيرودوت لصك مقولته الخالدة مصر هبة النيل.
أدركت مصر حاجة إثيوبيا من المياه والتي تنحصر في ملء الخزان أمام السد لبلوغ فارق الارتفاع المطلوب حتي تنهمر المياه لتشغيل توربينات توليد الكهرباء, وكان مطلب مصر البديهي والمشروع هو التفاوض حول عدد سنوات ملء الخزان المطلوبة لتحقيق التوازن بين كميات المياه المحتجزة وكميات المياه المسموح بتدفقها شمالا بما لا يخل بحصة كل من السودان ومصر… ولأي مراقب منصف كان ذلك المطلب بديهيا ولم يكن يقتضي جهدا أو يستلزم عنادا أو يفجر خلافا… لكن وياللعجب -وكأن النية مبيتة لجر مصر في صراع بغيض- قوبل مطلب مصر بالجدال والرفض من جانب إثيوبيا التي جعلت منه مادة للمساومة والمماطلة والتسويف علي مدي خمس سنوات شهدت جولات وجولات من المفاوضات المضنية تلاعبت فيها إثيوبيا وشككت في جميع الاتفاقيات وتنصلت من سائر المواثيق وأطلقت في وجه مصر سيلا من الاستفزازات لتحويل الأمر إلي صراع, حتي كانت آخر أشكال المواربة الإثيوبية تهربها الصبياني من توقيع اتفاق واشنطن بعدما اعتقد الجميع أنه خاتمة ناجحة لحسم المشكلة.
وللأسف لم يكن يخفي علي القاصي والداني أن هناك أهدافا خفية وراء ما تفعله إثيوبيا… ومن أهم ملامح ذلك, تكرار التناقض الصارخ بين ما يصدر عن قياداتها في الملتقيات التي جمعتهم بالقيادة المصرية والرئيس السيسي علي وجه الخصوص من تصريحات وردية تؤكد علي الحق المصري, وبين ما يتبع ذلك من إفساد مناخ التفاوض وإطلاق تصريحات عدائية مستفزة داخل إثيوبيا, كان من شأنها أن تسمم مسار التفاوض وتجر مصر إلي صراع كلامي وسياسي لا تحمد عقباه. لكني أكرر التقدير للقيادة المصرية أنها أبدا لم تستدرج في ذلك المستنقع وتمسكت بمسار التفاوض الذي انهار مرة تلو أخري حتي كان آخر ما لجأت إليه إرسال ملف القضية برمتها إلي مجلس الأمن الدولي ليفصل فيه… وحتي هذا المنحي لم ينج من تصريحات إثيوبية مستفزة رافضة له!!
لذلك أرجو المعذرة إذا قلت إنني لم أتلق بأي قدر من التفاؤل أنباء انعقاد القمة الأفريقية المصغرة الأسبوع الماضي والتي دعا إليها عبر تقنية الفيديو كونفرانس رئيس جنوب أفريقيا والرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي وبحضور الرئيس السيسي ورئيس كينيا ورئيس مالي ورئيس الكونجو الديمقراطية وكل من رئيس وزراء السودان ورئيس وزراء إثيوبيا… ويحسب للرئيس السيسي استمرار حرصه علي التجاوب الإيجابي مع كل محاولة لرأب الصدع حيث أكد أن مصر منفتحة برغبة صادقة في التوصل إلي اتفاق عادل ومتوازن يمكن إثيوبيا من تحقيق التنمية الاقتصادية آخذا في الاعتبار عدم الإضرار بالحقوق المائية لكل من مصر والسودان… واختتمت القمة بتشكيل لجنة عليا تضم الدول الثلاث وهيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي مع ممثلي الجهات الدولية المراقبة لمسار التفاوض, مع التزام إثيوبيا بعدم اتخاذ أي إجراء أحادي بالشروع في ملء الخزان أمام السد إلا بعد التوصل لاتفاق بين الأطراف الثلاثة… مع كل التمنيات لأن تسفر هذه المبادرة عن وضع حد لتلك الأزمة الشائكة, أصارحكم القول إن تاريخ الأزمة يجعلني متوجسا وأقول لإثيوبيا: أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أستعجب!!