د. أحمد الخميسي
خلال ثلاث سنوات ما بين 1958 و1961 غيرنا السكن ثلاث مرات، في المرة الرابعة كان التعب قد نال منا فأقمنا في شارع نوبار، ولم نغادره. كانت شقتنا في الطابق الثاني، وتصادف أن الشاعر صلاح جاهين كان يسكن في الطابق الرابع، وفي الخامس سكن الشاعر صلاح عبد الصبور. ومع أنني كنت صغير السن إلا أنني كنت أداوم على قراءة ملحق الأهرام، وأول ما حفظت من شعر كان لصلاح جاهين، بل إنه الذي جعلني أحب الشعر. ولم أكن أعرف أننا جيران حتى صادفته ذات يوم يهبط على سلم العمارة ليخرج، فوقفت أمامه مدهوشا، ولما وجدني بهذه الحالة، توقف بدوره ناظرا إلي. سألته مبهورا: " أنت صلاح جاهين؟". تأملني لحظة لكن بعمق مستفسر، وأجاب على مهل:" أيوه .. أنا صلاح جاهين". رفعت رقبتي لأعلى وقلت بتعجب:" ياه..". فضحك بقوة وقال لي : " هو إيه اللي ياه؟". قلت له : " أنت شاعر بجد". لم يقهقه لكن عينيه ابتسمتا وقال : " والله ؟. ده رأيك فعلا؟" ثم بدا كأنه يحاول أن يتذكر شيئا وسألني : " أنت من أي شقة ؟ انت ابن مين؟ اسمك إيه؟ ". قلت له : أحمد عبد الرحمن الخميسي. قال:" آه! قول لي كده بقى! أنا كمان بأقول اللماضة دي مش صدفة. طيب يا سيدي عن إذنك بقى".
وهبط السلالم وأنا اشيعه ببصري وأتذكر باعجاب رباعياته التي حفظتها مبكرا جدا. حينذاك كان ابنه الشاعر بهاء جاهين وكان صغيرا مثلنا يمشي في ممرات العمارة رافعا رأسه عاقدا ذراعيه خلف ظهره لا يتحدث إلينا، نقول له ونحن عيال: تعالى العب معنا. فينظر إلينا بكبرياء لطيفة ويهز رأسه بالنفي ويواصل سيره متأملا شيئا ما. فنذهب نحن لنلعب في الشارع بالكرة، وكانت المنطقة هادئة تماما، وفيما بعد اعتبرت أنا لسبب ما أنني وصلاح جاهين أصدقاء، فكنت إذا لم ألحق بشراء أهرام يوم الجمعة أصعد إلى شقته وأدق الجرس، فيخرج لي : عاوز إيه ؟. أجيبه بعشم وبدرجة من الخجل: " عاوز الأهرام ياعم صلاح".
يهتف نصف ضاحك نصف جاد : " يا ابني عيب.. أبوك صحفي.. اشتروا الجرايد"، ثم يختفي ويرجع حاملا الجريدة. فيما بعد ترك جاهين العمارة ومن بعده صلاح عبد الصبور، وظللنا نحن وحدنا، واخذت المنطقة التي كانت هادئة تصبح محلا لضجيج لا يحتمل وضوضاء باعة لا تنقطع. سافرت مدة إلى الخارج لأنهي دراستي وحين رجعت وجدت أن المكان لم يعد محتملا، فقد أصبح مصنعا للمشروع القومي للضوضاء. وعثرت لنفسي على شقة في مدينة نصر في منطقة هادئة، لكن أمي عرضت علي أن تذهب هي الى مدينة نصر وأبقى أنا في شقتنا وسط البلد على أساس أن عملي يستلزم وجودي في المركز. رفضت ذلك، لأنني كنت أعلم أنها لن تستطيع أن تفارق شارع نوبار، وهي التي يعرفها كل بائع فيه، وكل كناس، وكل شحاذ، هي أشهر شخصية في الشارع، تخرج كل صباح إلى الشرفة وتقف تنظم حركة مرور عربات الخضروات والفاكهة وتصيح :" روح هناك انت ياعلي..وأنت يا بتاع الجوافة.. تعالى هنا". ولم أشأ أن أحرمها من ذلك المركز القيادي ولا من المنطقة التي ألفتها فذهبت وسكنت في مدينة نصر بحثا عن الهدوء. وكما هي العادة كان الحي في البداية هادئا، ثم أخذت تغزوه الضوضاء شيئا فشيئا، ومن بين كل أنواع الضجيج، أجدني أميز في نحو الواحدة ظهر كل يوم قنبلة صوتية تنفجر: "بطيخ حمار وحلاوة"! مواطن صعيدي مع ترسيكل، بني آدم،لكن إذا رأيت كتفيه خيل إليك أن الصعيد كله محتشد فيهما، وإذا سمعت زعيقه زلزل الرعب قلبك، صحيح أنه ينادي على البطيخ" حمار وحلاوة"، لكن نبرته تشي بمعنى آخر: " اشتر البطيخ وإلا أصبحت وقعتك سودة"، وحاول، واجتهد، إذا واتتك الشجاعة أن تقول للصعيدي:" هذا لا حمار ولا حلاوة". في معظم الأحيان ألوح للبائع من النافذة بمنديل أبيض مستسلما وأشتري تحت تهديد صوته البطيخة القرعة، ثم أجلس وأستعيد ذكريات شارع نوبار، وفترة الهدوء، وصعوبة الضوضاء، فأهبط إلى الصيدلية وأطلب " سدادة أذن"، وأتمنى وأنا أمام الصيدلي لو أن لديهم بالمرة سدادة عقل، تمنع عني بالمرة ضوضاء بعض الأنشطة الثقافية.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري