نوال السعداوي
منذ أيام قليلة، جاءتنى دعوة إلى كازاخستان، ومع الأسف اعتذرت عن عدم قدرتى على الذهاب، بسبب الوعكة الصحية التى أمر بها.
وشردت فى الذكريات، حينما سافرت إلى كازاخستان لأول مرة عام 1968. سافرت إلى الاتحاد السوفيتى، فى رحلة طويلة، قطعت بعضها بالطائرة، وبعضها بالقطار،وبعضها على نهر الفولجا، فى سفينة مع «فالانتينا» التى تم تتويجها بطلة الفضاء حينئذ، من بعد رائده الأول «جاجارين». زرت عددا من المدن، منها لينينجراد، ستالينجراد، موسكو حيث الكرملين ومقبرة لينين، رأيته راقدا داخل بذلته الرسمية السوداء، محنطا مثل توت عنخ آمون، والطوابير من البشر تملأ الميدان الكبير، تنتظر بالساعات لتلقى نظرة على زعيم الثورة البلشفية. لم أكن من أتباع لينين، أو غيره من زعماء الشرق أو الغرب. لكن احتفاء الشعوب بفرد ناضل من أجلها أمر عظيم ونبيل.
كانت مدينة «ألماتى» فى ذلك الوقت عاصمة كازاخستان تحت الحكم السوفيتى. حضرت بها مؤتمرا أدبيا، وأكلت تفاحها، (كلمة ألماتى تعنى التفاح)، وجوه أهلها تشبه الصينيين.
ثم جاءت رحلتى الثانية إلى كازاخستان، حيث دعيت لإلقاء كلمة فى مؤتمر أدبى، بعد أكثر من خمسة وأربعين عاما من رحلتى الأولى، وقد سقط الاتحاد السوفيتى. أصبحت مدينة الأستانة هى عاصمة كازاخستان منذ 1991 وحتى 2019. هبطت فى مطارها بعد رحلة طويلة فى الجو، بدأت من القاهرة إلى فيينا، ومنها إلى الأستانة. رغم مرور الزمن، مازلت أفرح بالتحليق فى الهواء، أو ركوب القطار مثل الأطفال.
لا شىء مثل السفر وتجاوز الحدود، يقضى على التعصب للقبيلة ومسقط الرأس. لا شىء مثل السفر، يوسع عقولنا وقلوبنا، تذوب الهويات الضيقة الصغيرة الموروثة، تاريخيا بالدم والرحم والدين، والعٍرق، نكتسب الهوية الإنسانية الأكبر، التى توحد البشر رغم الاختلاف. أشعر بالراحة فى السفر، وسعادة التحرر من القهر المزمن، داخل سجن الأرض والأسلاف.
مازالت الذكريات تحملنى معها، عندما جاءتنى الدعوة لإلقاء كلمتى فى مؤتمر قالوا عنه «رفيع المستوى»، حدقت فى هاتين الكلمتين «رفيع المستوى».
هذه المؤتمرات تنظمها الحكومات، شرقا وغربا، تنفق عليها الملايين، والنتيجة؟؟.
الكلام الممل المكرر، والدعايات، والحقائب المنتفخة بالأوراق، وصور المسؤولين، والخطب الطويلة المصقولة، لكن رغبتى فى رؤية الأستانة، عاصمة كازاخستان الجديدة، تغلبت.
منذ المدرسة الابتدائية، قرأت فى كتاب التاريخ عن الأستانة. تصورتها الامبراطورية الممدودة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، فى آسيا حتى حدود الصين، البحر الأسود، وبحر قزوين، إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، إلى مصر ونهر النيل فى إفريقيا. كلمة الأستانة شغلت خيالى الطفولى، مع اسم محمد على باشا، حاكم مصر، كان يجلب منها العلماء، وإليها يرسل البعثات.
رجال البروتوكول فى المطار، يشبهون رجال البوليس، لا بد أن أتبع طقوسهم فى الاستقبال، وأن أبتسم لصورة الرئيس المنشورة، كنت مدعوة وهكذا كان الأمر دائما، بصفتى الشخصية، كاتبة حرة مستقلة، لا أتبع أى حكومة، لا أمثل أى نظام.
فى الفندق خمسة نجوم، أصابنى تسمم غذائى. قضيت الليلة الأولى أفرغ ما دخل معدتى، أول نتائج المؤتمر رفيع المستوى، والانفتاح على أمريكا وأوروبا.
هذا إيجاز بليغ للانفتاح على الرأسمالية تحت أسماء براقة، يختبئ التسمم الغذائى تحت شعار الثورة الخضراء، والأمن الغذائى.
فى الصباح، صحوت مشرقة كالشمس، وذهبت إلى المؤتمر، وألقيت كلمتى، ونلت تصفيقا طويلا، رغم نقدى للديمقراطية الزائفة، والخصخصة، والسوق الحرة، لكننى أشدت بالتعليم الجديد القائم على التعددية، وحرية الفكر، وإثارة الجدل، وعلى قوانين الأحوال الشخصية التى هى كلها قوانين مدنية.
مرافقتى كانت فتاة كردية الأصل اسمها «نارينا»، تجولت معى فى المدينة. الشوارع واسعة نظيفة، البنات فى الحدائق، النساء يتسوقن، لم أر امرأة واحدة محجبة، والرجال لا أحد منهم يتطلع إلى النساء أو الفتيات. قالت نارينا: «الأغلبية هنا من المسلمين، لكنهم لا يؤمنون بحجاب المرأة، وهنا تتعدد الأديان والمذاهب والأعراق، وعندما يصل المواطن سن العاشرة، من حقه أن يغير اسمه واسم أبيه أو اسم عائلته، وديانته أو مذهبه، هنا لا يفرض الدين بالوراثة أو التربية والتعليم». وعرفت منها أن أثناء الحكم السوفييتى، كان التعليم بالمجان، ولكن مناهج التعليم كانت محكومة بالفكر الشيوعى، وبعد الاستقلال، والانفتاح على أمريكا وأوروبا أصبح التعليم بالفلوس لمن يملك المال، وأنه على غرار ما يحدث فى البلاد الرأسمالية، اتسعت الهوة الطبقية، لكن الحريات الشخصية والفكرية تزدهر. سألت نارينا: «لو كان بإمكاننا الجمع بين حسنات الشيوعية وحسنات الرأسمالية، ألن يكون هذا أمرا جيدا؟». قالت: «يا ريت يا دكتورة، لكن الرجال يحكموننا بالعقلية التقليدية، شيوعية أو رأسمالية.. النساء المسلمات هنا متحررات لكن الرجال يحتكرون السلطة فى الدولة والعائلة».
نقلا عن المصرى اليوم