فاطمة ناعوت
فى مذكّراته، «حوارى مع نفسى»، قصَّ «نيلسون مانديلا»، الزعيم الثورى ورئيس جنوب إفريقيا السابق، هذه القصة الطريفة: (بعدما أصبحتُ رئيسًا، خرجتُ مع أفراد حراستى للتجوّل داخل المدينة. دخلنا أحد المطاعم، فوقع بصرى على شخص ينتظر طلبه. دعوته ليشاركنا الطعام على طاولتنا، وأجلسته بجانبى. كان العرقُ يتصبّبُ من جبينه ويده ترتجف ولا تقوى على إيصال الطّعام إلى فمه! وبعدما انتهينا ومضى الرجلُ، قال لى حارسى الشخصى: «ذاك الرّجلُ يبدو عليه المرض. كانت يداه ترتجفان ولم يأكل إلاّ القليل!»، فأجبتُه: «كلا، إنما هو حارسُ السّجن الانفرادى الذى كنتُ فيه. بعد التّعذيب الذى كان يمارسه علىّ، صرختُ طالبًا شربة ماء. فجاء هذا الرجل وتبوّل على رأسى. ربما كان يرتعد خوفًا من أن أردَّ له صنيعه بتعذيبه أو بسجنه. لكنه أغفل أن تلك ليست أخلاقى. عقليةُ الثأر لا تبنى الدول، فى حين ثقافة التّسامح تبنى الأمم.».
ذكّرتنى الحكايةُ بمانديلا مصرى عظيم تشرفتُ بمعرفته وشرّفنى بتصدير أحد كتبى بقلمه الجميل. المناضل الكبير الراحل: «محمود أمين العالم»، رحمه الله وأثابه خيرًا عمّا قدّمه لمصر من نضال وفكر وتنوير.
كان يحكى لى عن ذكرياته فى معتقلات ١٩٥٩، وعن السجّان الغليظ الذى كان يصرخ فى وجه مفكرنا العظيم قائلا: (يا مسجون... كسّر الصخرةَ بالفأس. للصخرةِ سبعةُ أبواب. حدِّدْ مكانَ الباب، واضربْ)، هكذا كان يزعقُ سجّانٌ خشنٌ فى وجه فيلسوف، وهو يلوّحُ بالسَّوط الذى نالَ من جسد الفيلسوف فى المعتقل السياسى. أثناء النهار كان السجّانُ يقسو على السجين ويجعله يُحطِّمُ الصخورَ بالمِعوَل تحت لهيب الشمس. وفى المساء، كان السجينُ يدعو السجّانَ الأُميَّ إلى زنزانته، لكى يُعلّمَه أبجديات القراءة والكتابة، وشيئًا مما فاته من المبادئ العليا وقانون الأخلاق! أهتفُ فى عجبٍ: (يا أستاذ محمود! السجّان يجلدك بالسياط نهارًا، وأنتَ تمحو أُميّتَه ليلا؟!) فيقول، وابتسامتُه الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ على وجهه: (طبعا يا فاطمة يا حبيبتى. كلٌّ منّا يؤدى دورَه فى الحياة بإخلاص وجدية. السجّانُ يظنُّ أننى مذنبٌ أستحقُّ العقاب؛ لأنهم أفهموه أنّ التنوير والمطالبة بالعدالة كفرٌ ومُروقٌ وزندقة وخيانة. ولذلك كان جلْدُه لى واجبًا وطنيًّا يؤديه بأمانة. وأما واجبى أنا، فكان حقَّه الذى فى عنقى: وهو تعليمُه وتثقيفه هو وغيره من الأميين الذين فاتهم حظُّ التعليم.) أسألُه فى حُبٍّ وإعجاب: (يعنى حضرتك لم تكره سجّانَك يا أستاذنا؟) فيجيبُنى بحسمٍ ورقّة: (مطلقًا! بالعكس! كنتُ أحبُّه وأشفقُ عليه وأشعرُ بالمسؤولية تجاهه. هو ضحيةُ التغييب والجهل. كما أننى كنتُ أتعلّم منه أسرارَ الصخور ومفاتيحَ أبوابها. أُصغى إليه وهو يتفحّصُ الصخرةَ الكبيرةَ، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها السبعة، التى هى أبوابُها، ثم يأمرنى أن أهبطَ بمِعولى فوق تلك الأبواب، فتتحطم الصخرة. ذاك كان عملى فى عقوبة الأشغال الشاقة. لا تتفتتُ الصخرةُ إلا من نقاط ضعفها السبع، أو أبوابها السبعة. السجّانُ الماهرُ يُعلمنى بالنهار كيف أفتِّتُ الصخرَ، وأعلمه أنا بالليل كيف يفتِّتُ أسوارَ العتمة من حوله.). وبعدما ينتهى الأستاذُ الجميلُ من تعليم سجّانه الأبجدية والأخلاق، يقضى بقية ليله الطويل بالزنزانة فى كتابة القصائدِ على الحوائط. تلك القصائدُ لا تزالُ شاهدةً وحيّة، شاهدتُها بنفسى، على حوائط سجن القلعة، ترفضُ الحيطانُ أن تمحوَها!
ذلك هو المُفكّرُ والمناضلُ الوطنىُّ الذى كنتُ أسيرُ معه من المجلس الأعلى للثقافة، وحتى بيته فى جاردن سيتى، فأراه يصافحُ البسطاءَ فى الطرقات، ويمازحُ البوابَ والسائس والشحاذَ، يسألهم عن أولادهم ويسمع شكاواهم! هكذا يفعلُ الكبارُ والأنبياءُ الذين يدركون أن البسطاءَ هم «مِلحُ الأرض» وكنزُ الحياة الذى يجب الاستثمارُ فيهم حتى نعلو ونرتقى. الفيلسوفُ المصرى صاحب الأطروحة الملهمة: «فلسفة المصادفة»، التى تُضفِّرُ الفيزياءَ بالرياضيات بقانون الاحتمالات مع الفلسفة والنقد السياسى والجدلية التاريخية، فى جديلة فاتنة وخطيرة، تجعلك تعيد قراءةَ التاريخ بعينين جديدتين مُبصرتين بوعى مختلف.
فى كتابى الصادر عام ٢٠٠٦: (الكتابة بالطباشير)، كتب محمود أمين العالم مقدمةً فاتنة بعنوان: (تحذير ومقاربة)، يدعو فيها القارئ إلى قراءة كتابى بحذر وتعمّق ودون استسهال. فنشرت جريدةُ «الأهرام» خبرًا عن الكتاب تحت مانشيت مخاتل يقول: (العالم يحذِّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد). يومها أيقظنى رنينُ الهاتف فى السادسة صباحًا، لأجد أمى تصرخ فى الهاتف بهلع: (ليه بيحذّروا من كتابك الأخير؟! كتبتى إيه فيه؟!).. والحكاية أن الخبر لم يضع كسرةً تحت اللام فى كلمة «العالِم»، فقرأتها أمى: «العالَم يُحذّر من كتاب ناعوت!»، وارتعبتْ أن يكون كلُّ العالَم كلّه ضدى!.
«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم