محمد أبو الغار
من الطبيعى أن ينتاب الإنسان كل فترة حزن عميق لكن هذا هو حال الدنيا. كتبت هذا المقال يوم الذكرى الأولى لرحيل زميلة وصديقة عزيزة كانت نجمة في العلم والذكاء والأخلاق والذوق ومراعاة الصغير قبل الكبير والفقير قبل الغنى، ولم تتزلف لرئيس أو عميد أو وزير لتنال شيئًا. كانت محبة للعلم وأنجزت في تخصصها ما لم يحققه مئات من الأساتذة في تخصصات مختلفة.
فقدنا جميعًا مديحة دوس أستاذة اللغويات بكلية آداب جامعة القاهرة، وتركت جرحًا غائرًا في قلوب الكثيرين، وبالنسبة لى فقدت سندًا قويًا لى أسأله وأحاوره وأحكى له وأستمع إليه. الآن أصبح الأصدقاء في كثير من الأحيان أقرب الناس للإنسان. الصداقة الحقيقية كانت ومازالت شيئًا رائعًا، فالبنى آدم يريد أن يحكى ويفضفض ويتكلم عن كل شىء من أمور شديدة الخصوصية إلى أحداث يومية عابرة. الصداقة تطورت مع الزمن حين ازدحمت الدنيا وابتعدت المسافات وانشغل الناس بالعمل تارة وبالعائلة تارة أخرى، وبوسائل التواصل الاجتماعى التي تستهلك الآن زمنًا طويلًا ومجهودًا كبيرًا، وأعطت الفرصة للإنسان أن يبدى رأيًا ويعلق، بل يدخل في عراك لفظى قد يصل إلى مراحل مزعجة.
قلل التواصل الاجتماعى من عمق علاقة الصداقة لأنه أخذ من وقت الصداقة ووقت العائلة ووقت العمل ووقت النوم. حققت برامج التواصل الاجتماعى أعدادًا كبيرة من الصداقات بل أحيانًا زيجات، أسعدت الكثيرين بأن حققوا من خلالها أنفسهم وأظهرت مواهب كانت غير معروفة للجميع.
الصداقة لأسباب كثيرة أصبحت نادرة، وأصدقاؤك الحقيقيون هم الذين تكونت الصداقة معهم من زمن بعيد، وحاليًا العلاقات الإنسانية لم تعد ترقى إلى مرتبة الصداقة. الصداقة تكون أكثر صعوبة حين تكون بين رجل وامرأة خاصة في مجتمعنا لأسباب معقدة. ولكنها حين تكون صداقة حقيقية وعميقة تكون ناجحة ومريحة نفسيًا وتسمو إلى آفاق رائعة. صعوبة إيجاد صداقات عميقة جديدة أضافت بعدًا جديدًا لقسوة الحياة. وبعد أن أصبح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى يشترك فيها حوالى خمسين مليون مصرى أصبحت القضايا الشخصية والعامة مثارة بين ملايين البشر.
في الأسبوع الماضى انتحرت فتاة مصرية في كندا في حادث مأساوى، وبغض النظر عن أسباب وظروف الانتحار كانت القسوة الرهيبة من جماهير كبيرة على الفيس بوك شيئًا مبالغا فيه بحيث اعتبر الكثيرون أنهم مسؤولون شخصيًا عن تطبيق شرائع ومحاكمة النفوس والأفكار. هذه القسوة عند اختلاف الرأى أو اختلاف الفكر لم تكن موجودة في مصر منذ قرن مضى. حينئذ اختلف الناس وحدثت مشاحنات وانطلق بعضها إلى ساحات المحاكم وانتهى الأمر عند ذلك. هاجم البعض طه حسين لخلاف في الرأى ولكن الخلاف لم يكن فيه طابع القسوة والغل الموجود حاليًا.
أعرف أن هناك انقساما فكريا كبيرا في المجتمع وأن أجيال الشباب أصبحت محاصرة بين دوائر فكرية شديدة المحافظة ومن يخرج من هذه الدائرة يعتبر مارقًا وملعونًا ويعامل بقسوة شديدة من الناس والعائلة والمجتمع، ككل فالتفكير أصبح غير مسموح به في أمور كانت المناقشة فيها متاحة على جميع المستويات بين المثقفين والبسطاء في النصف الأول من القرن العشرين. الانغلاق الفكرى أدى إلى توقف العقل بينما انطلقت الحداثة حولنا ونحن حتى لا نحاول أن نلهث وراءها، وبعد أن كنا في مقدمة المنطقة أصبحنا في المؤخرة. وصاحب ذلك ظروف مادية واقتصادية صعبة فانهارت الطبقة الوسطى التي كانت تعيش في مصر في القرن الماضى حياة بسيطة ولكنها مريحة. والآن تعانى هذه الطبقة من عدم القدرة على الحياة، وصاحبه انفجار سكانى مريع لم يستطع أحد تنظيمه، وأدى ذلك إلى انخفاض قدرة الدولة على مساندة هذه الطبقة التي هي رمانة الميزان في المجتمع، فانخفض مستوى التعليم والصحة وظهرت المعاناة الحقيقية في تخرج شباب جامعى بمئات الأولوف وهو غير مدرب على العمل الحديث وصاحب ذلك قسوة غير مسبوقة في التعامل مع الجميع. وضاعت مدخرات الأسر في علاج الكبار وتعليم الصغار في ظل عدم وجود تعليم أو رعاية طبية حقيقية للملايين.
أدى ذلك إلى غضب مكتوم وحنق على المجتمع وتحول ذلك إلى قسوة على النفس وعلى الآخرين وانتهى بتفسيرات دينية لا تتفق مع أغلبية الآراء فصعبوا الحياة على أنفسهم وعلى المجتمع في ظروف أصلًا صعبة. لن أتحدث عن الفقراء الذين حالتهم أصبحت شديدة البؤس ولا أحد يساعدهم بجدية للمحافظة على حجم صغير للأسرة حتى يمكن أن تتحسن أحوالهم.
ثم جاء وباء الكورونا الذي اجتاح العالم كله وقتل مئات الآلاف ووجد سكان العالم الثالث ومن ضمنهم مصر أن كفاءة وقدرة الأنظمة الصحية ضعيفة، وأصبح عدد الأسرة لا يكفى المرضى واحتارت الدولة بين فتح العمل لإيقاف تدهور الاقتصاد وبين الغلق لمنع انفجار الوباء.
المصريون رأوا بأعينهم أقاربهم ومعارفهم يموتون بسبب الفيروس وسبب ذلك مرارة انعكست على قسوة في التصرفات مثل عدم الموافقة على دفن أهاليهم الذين توفوا بسبب الفيروس. الطبقة العليا توقفت عن العمل وعزلت نفسها، بعضهم حاول أن يساعد العمالة ويبقيها وبعضهم استغنى عن العمالة فزادت الحياة قسوة بالنسبة لهم. والمرض أصاب الأغنياء كما أصاب الفقراء فالجميع أصبحوا في سلة واحدة.
نحن في فترة صعبة أدت إلى فقدان العمل والأمل وضمانات المستقبل وحتى الصداقة أصبحت صعبة المنال. ويعيش المصريون مثل بقية العالم الثالث في عالم افتراضى تسيطر عليه وسائل التواصل الاجتماعى بما فيها من حقائق وأوهام. نرجو أن تمر هذه الأزمة بسلام على مصر الغالية.
«قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك».
نقلا عن المصرى اليوم