فاطمة ناعوت
«الخجول» فى عنوان المقال تعودُ على «العيد»، وليس «الأب». وأقولُ عنه «الخجول»، لأنه مرَّ بالأمس «الأحد» ولم يشعر به أحدٌ. على عكس «عيد الأم» الذى يملأ الدنيا صخبًا وغناءً وإعلاناتٍ على الشاشات، وزهورًا.
جميعُ الأدبيات فى ثقافات العالم دلَّلتِ الأمَّ ووضعتها درّةً على تاج العلاقات الإنسانية. وأسكنتها الأديانُ المكانةَ الأعلى بين البشر. أوسعت الأمّ كتابةً وتصويرًا وتخليدًا فى القصائد والروايات والأغانى. وهى تستحقُّ كلَّ هذا وأكثر. فالأمُّ منذورةٌ لأعسر وأشقّ وأنبل مهمة بيولوچية يؤديها كائنٌ حىّ تجاه كائنٍ حىّ آخر. أن يخلص من جسدها جسدٌ، ومن نفسِها نفسٌ، ومن روحها روحٌ، مثلما تُشرق برعمةُ زهرة من طمى الأرض الطيبة. ثم لا تكتفى بهذا الدور الأسطورى المعجز، بل تُكملُ دورَها النبيل فى إنبات براعمها حتى تستوى الزهورُ فوق أغصانها.
وعبر سلسال تكريم الأم وتسليط الضوء عليها، يُنسَى الأبُ. وقلّما يتذكرُ هو أنه يُنسى؛ فيتواضع فى معرفة مكانه ومكانته. فهو كذلك منضوِ تحت مظلّة تقديس الأم، منذ كان طفلا يحبُّ أمَّه ويرتمى فى حضنها إن غاضبه طفلٌ، أو نهره أبٌ، أو عنّفه معلم. فتعلّم أن «كلَّ» إنسان يأتى بعد الأم، حتى هو حين يصبح أبًا. يشاركُ صغاره الاحتفال بعيد الأم، ويقرأ عليهم الحديث شريف: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أبوك». الأب العظيم لا يعبأ بالتكريم. ربما لأنه لا يشعر بالأبوّة لصغاره وحسب، بل لزوجته التى صارت أمًّا لصغاره. الأبّ الحقيقىُّ الذى يُنسى، فينسى أن يتذكر أنه يُنسى، ويفرح مع الفرحين بعيد الأم الذى يحتفل فيه مع صغاره بتلك الصبيّة الجميلة التى حملها من بيت أبيها إلى بيته، فصارت على يديه «أُمًّا» يلتفُّ حولها صغارُه، ويحتفلون بعيدها بعدما يأخذون منه ثمن الهدايا اللطيفة التى سيفاجئونها بها ليُدخلوا الفرحَ على قلبها.
لكن فتاةً أمريكية طيبة عاشت فى أوائل القرن الماضى فكّرت فى هذا الطيب الذى يُنسى، فقررت أن يتذكره العالمُ. اسمها «سونورا لويس سمارت دود». كانت تستمع فى قدّاس أحد الآحاد عام ١٩٠٩ إلى عظة دينية عن عيد الأم. وكانت أمُّها قد رحلت عنها وهى تلد طفلَها السادس، ولم تُكمل «سونورا» بعدُ عامها السادس عشر. فكرّس الأبُ، المزارع البسيط، حياتَه لتربيتها مع أشقّائها الذكور الخمسة. لم تعرف البنتُ إلا حنانَ أبيها، ولم تجرّب غير حضنه، ولم تسمع إلا وجيبَ قلبه على أطفاله، وما شهدت غير سهره على مرضها وصحوها واستذكارها دروسها. فقررت أن تكتب عريضةً مطولة تكلمت فيها عن مكانة الأب فى حياة أطفاله، وأوصت فى نهاية عريضتها بتخصيص يوم للاحتفال بالأب، أسوةً بعيد الأم العالمى الخالد العابر للجغرافيات والأزمان. واقترحت أن يكون عيد ميلاد والدها هو يوم العيد. قدمت الفتاةُ العريضة للائتلاف الحكومى فى مدينة سبوكين، فأيدت فكرتَها بعضُ الفئات المجتمعية فى ولايتها. وفى العام التالى احتفلت مدينة «سبوكين» بولاية واشنطن بأول عيد أب فى العالم يوم ١٩ يونيو ١٩١٠. ثم جاء عام ١٩٦٦ ليصدرَ الرئيس الأمريكى «ليندون چونسون» مرسومًا رئاسيًّا بتخصيص «الأحد الثالث من شهر يونيو»، من كلّ عام: عيدًا رسميًّا للأب.
لكنه، مع كل ما سبق، ظلّ عيدًا خجولًا، يتسلَّلُ كلَّ عامٍ من الروزنامة على استحياء بخُطى خجول، كأنما لا يريد أن يشعرَ به أحدٌ. وبالفعل، قلّما يشعر به أحد. فثمة أبٌ يُفاجأ بأطفاله يتحلّقون حوله ويقدمون له الهدايا. فيبدأ فى فضّ الأغلفة وهو غارق فى التفكير يتساءل: «هل اليوم عيدُ ميلادى وقد نسيتُ وتذكّروا؟!»، وبعد برهة يسمع من يقول: Happy Father’s Day، Dad. فيتذكر ما قد نسى. وثمة آباءٌ لا يعرفون شيئًا عن هذا العيد الخجول.
أقدّم مقالى هذا هديةً لكل أب عظيم فى هذا العالم. وأقدّمه للرجل الجميل الذى جعلنى أُمًّا وجعلتُه أبًا: المهندس المعمارى المرموق «نبيل عبداللطيف شحاتة». الأب الجميل الذى جعل من أطفالى شبابًا ناجحين وسعداء. أقولُ له: (لم تكن فقط أبًا رائعًا لأطفالنا مازن وعمر، وفاتيما ابنتنا الروحية، بل كنتَ لى، وستظلُّ: أبًا حنونًا، وشقيقًا رائعًا، وصديقًا طيبًا لا أخجل أن أرمى بين يديه دموعى وضعفى حين تقسو الحياة. كل عيد أب وأنت أجملُ أب).
«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».