زاهي حواس
قام المواطنون فى مدينة بريستول البريطانية بعمل مظاهرة حاشدة، ثم ألقوا على أثرها أحد التماثيل، والذى كان يخص إدوارد كولستون، فى نهر أيفون. وكانت هذه المظاهرة ضد العنصرية.
وجاءت ردًا على مقتل المواطن الأمريكى ذى الأصول الإفريقية، جورج فلويد، على يدى شرطى أبيض فى مدينة مينيابوليس فى ولاية مينيسوتا الأمريكية. وكان إدوارد كولستون أحد أبرز تجار الرقيق، والذى كان مسؤولًا عن نقل أكثر من ثمانين ألف شخص من أفريقيا إلى أمريكا فى القرن السابع عشر الميلادى. وللأسف الشديد ربطت الصحف البريطانية بين إلقاء تمثال تاجر الرقيق والأهرامات المصرية.
وأشارت الصحف إلى أن الأهرامات قد بُنيت بالسخرة. وأشارت، فى الوقت نفسه، إلى أن هناك البعض فى بريطانيا الذى يشكك فى قدرة المصريين القدماء على بناء الأهرامات، وأكدوا ثانيةً أنها قد بُنيت بالسخرة!!.
وأقول دائمًا إن أى شخص، غير متخصص، ولم يقرأ عن التاريخ والآثار جيدًا، ويقف أمام الهرم، فلن يستطيع أن يتصور أن هرم خوفو من الممكن أن يبنيه بشر إطلاقًا. وهناك شخص آخر يعيش فى لندن وضع على قناة اليوتيوب حديثًا يذكر فيه أن إعجاز بناء الأهرامات لا يمكن أن يقوم به بشر؛ ولذلك يرجع أولئك الأشخاص بناء الأهرامات إلى كائنات فضائية أو إلى قارة أطلانتس!!، وللأسف الشديد فهناك بعض الأشخاص الذين يعتقدون أن الأهرامات لم تُبن كى يدفن فيها بعض ملوك مصر القديمة، وإنما كانت محطات لتوليد الكهرباء والطاقة!!.
وقد قمت هذا الأسبوع بالرد على هذه التخاريف، وأكدت أن الربط بين إلقاء تمثال تاجر الرقيق فى النهر وبين بناء الأهرامات المصرية ليس له معنى إلا الجهل والإثارة الرخيصة التى لا تستند إلى أية أدلة علمية، وإنما هى مجرد تخاريف بريطانية ليس إلا.
.. ومن أهم الأدلة التى تدحض أن الأهرامات المصرية بناها العبيد، أو أنها بُنيت بالسخرة، هو الكشف الأثرى الذى قمت به، والخاص باكتشاف مقابر العمال بناة الأهرامات، على مبعدة واحد كيلو متر فقط إلى الجنوب من تمثال «أبو الهول» العظيم، وهرم الملك خوفو العظيم، أى أن الكشف يوجد بالقرب من الهرم نفسه. وهناك اكتشفنا الجبانة السفلى، والتى تم دفن العمال الذين نقلوا الأحجار فيها، والجبانة العليا والخاصة بالفنانين والمشرفين على جوانب الهرم.
وبجوارهما تم اكتشاف منطقة الإعاشة التى عاشوا فيها أثناء بناء هذا المشروع العظيم. وكانت تحتوى على مناطق المخابز وتجفيف الأسماك، وغيرها من أنشطة الحياة اليومية الخاصة بهم.
وهذا ينفى تمامًا أن بناة الأهرامات كانوا عبيدًا؛ لأنهم لو كانوا كذلك، ما كانوا دُفنوا إلى جوار هرم الملك. ولو كانوا عبيدًا، لما أعدوا مقابرهم للعالم الآخر مثلهم مثل جميع المصريين القدماء من ملوك وأمراء ونبلاء وموظفين. وقد نجد أن عوامل السخرة وإجبار أى قوم أو جماعة على القيام ببناء أى مبنى، قد تحقق لهم القيام ببناء، ربما يكون أضخم من الهرم نفسه، لكن لا يمكنهم تحت السخرة والعبودية أن يبدعوا إلا إذا كان هذا العمل يتم بناء عن رغبة قوية وعقيدة راسخة منهم؛ وذلك لأن الهرم كان ملجأ الملك وشاهدًا على سلطاته وقوته وتأكيدًا على خلوده فى العالم الآخر.
وكان الهرم هو المشروع القومى لكل المصريين. وكان واجب العائلات الكبيرة فى الدلتا والصعيد هو تدبير العمالة اللازمة لبناء الهرم، وكانوا كذلك مسؤولين عن إطعام عائلات أولئك العمال طوال فترة عملهم فى بناء الهرم. وفى المقابل، كان الملك يقوم بإعفاء العائلات من الضرائب المفروضة عليها. ونعرف أن العمال كانوا يتناوبون فى عملية البناء؛ لذلك أبدعوا فى جعل هذا الهرم يبهر العالم كله منذ لحظة بنائه إلى الآن.
وإذا حاولنا الآن بناء هرم مثل الهرم الأكبر، فلن نستطيع؛ لأنه ليس لدينا الوازع الدينى الذى كان موجودًا عند المصريين القدماء. ولا يوجد لدينا أى دليل على العبودية فى عصر الدولة القديمة بالمعنى المفهوم لدينا حاليًا. وتوجد نصوص كثيرة تركها المصريون القدماء على مداخل مقابرهم تؤكد أنهم لم يجبروا أحدًا على العمل فى مقابرهم، بل أكدوا أنهم كانوا يدفعون للعمال أجورهم من الخبز والجعة. وكان العمال يقسمون على أنهم راضون عن عملهم فى مقابرهم.
وكانوا يؤكدون على وصول أجورهم كاملة لهم. وفى الوقت نفسه، فقد تم اكتشاف حديث، ومنذ سنوات قليلة. ويعد، فى رأيى، أعظم اكتشاف أثرى فى القرن الحادى والعشرين الميلادى، وهو اكتشاف بردية وادى الجرف بمنطقة الزعفرانة على ساحل البحر الأحمر على مبعدة 180 كم من طريق السويس- الزعفرانة، بمحافظة البحر الأحمر. وعُثر على هذا الاكتشاف عند مدخل مغارتين. وكانت البرديات مدفونة بين الكتل الحجرية التى تم استخدامها لغلق المغارة.
ويُعتقد أن هذه المغارات كانت تُستخدم كورش ومخازن وأماكن سكنية فى عهد الملك خوفو. وقد وصل عدد البرديات إلى أربعين بردية مكتوبة بالهيراطيقية وبعض الأجزاء بالهيروغليفية. وتوضح هذه البرديات الحصص اليومية للأطعمة التى كانت تُستجلب من مناطق عديدة فى الدلتا والصعيد. ويظهر فى البردية اسم السلعة والمكان القادمة منه؛ لتؤكد كل هذه الأدلة الأثرية والنصية على أن بناء الهرم كان المشروع القومى لمصر القديمة كلها، وأن العائلات المهمة فى البلاد كانت تساهم بإرسال أبقار وأغنام ومأكولات لإطعام العمال المشاركين فى بناء الهرم.
وفى تلك البردية يسطر لنا أحد رؤساء العمال، ويدعى الريس «مرر»، أنه كان يقود فريقًا مكونًا من أربعين عاملًا، والذين اشتركوا معه فى بناء هرم الملك خوفو.
وشرح لنا كيفية قيام العمال بقطع الأحجار من محاجر طرة لكساء أوجه الهرم الأربعة. وحدثنا «مرر» عن المركز الإدارى الذى كان يشرف عليه المهندس عنخ حاف. إن كل هذه الأدلة تشير إلى أن بناء الهرم هو إعجاز علمى ومعمارى قام به مجموعة من العمال المصريين فى سبيل أن يصل الملك إلى منزلة الإله.
وفى نفس الوقت كان هناك التأكيد على حسن معاملة العمال المشاركين فى هذا المشروع العملاق. وتم تخصيص أماكن لإعاشة العمال، وإقامة مركز طبى لإسعافهم ولرعاية المصابين منهم، ولدينا أدلة على عمليات جراحية تمت لأولئك العمال، بل تم تخصيص جبانة لدفنهم، إذا ماتوا أثناء العمل فى المشروع. ولو كانوا عبيدًا، لما رأينا كل ذلك الاهتمام بهم.
وهنا أود أن أختم مقالى قائلًا إن ما قيل عن الهرم هى مجرد تخاريف بريطانية، وإن أعظم رد على أولئك المخرفين هو ما تركه لنا أى الموظفين المصريين القدماء منذ أكثر من أربعة آلاف عام حين كتب فى سيرته الذاتية على جدران مقبرته: «لم أضرب إنسانًا وقع تحت يدىّ قط.. ولم أستعبد أحدًا فى العمل قط».
نقلا عن المصري اليوم