فاطمة ناعوت
وكأننى أنتظرُ سماعَ ذلك الدعاءَ البديع منذ دهور. تلقَّفت الدعاءَ أذناى، كما يتلقَّفُ الظمآنُ قطرةَ غيثٍ جادتْ بها السماءُ بغتةً على صحراءَ جافّةٍ تئِنُّ تحت هجير الشمس فى لحظةِ قيظٍ عاصف. لم أصدّق ما سمعتُ للتوّ، وخِلتُ أننى أسمعُ صدى أحلامى القديمة التى كنتُ أثرثرُ بها مع زملائى وزميلاتى فى المدرسة ثم فى الجامعة. كنتُ أحدِّثُهم عن شساعة الحُبِّ، فيحدثوننى عن ضيقه!.. أحاجِجُهم برحابة الرحمة، فيُحاجِجوننى بانحسارها. أجادلُهم حول انبساط المغفرة، فيجادلوننى حول انحصارها. نختلفُ، نتغاضبُ، نتخاصمُ، ثم نمضى كلٌّ فى طريق. وفى اليوم التالى نعودُ صافين كجدولٍ رقراق لم يمسَسه سوءٌ. قلوبُنا خضراءُ غضّةٌ لم تعرف بعدُ ما يعكّر صفوَ نقائها. فإذا ما عَنَّ فى الأفق نقاشٌ جديد، عاودنا الاختلافَ والخلافَ والمغاضبةَ والخصامَ ثم: الصفحُ الجميل. يرحلُ عن عالمنا قريبٌ لزميل لنا أو زميلة، فيدعو الرفاقُ للزميل بطول العمر، وبالرحمة والمغفرة للمتوفَى. خاتمين دعاءهم: «…. وموتى المسلمين.»!!! فأندهشُ وأغضبُ من القائل، هامسةً فى حَزَن: «لماذا تبخلُ فى الدعاء يا صاح؟! هل تنقُصُ الرحمةُ إن دعونا بها للموتى جميعًا؟! هل فى الأمنياتِ الطيباتِ شُحٌّ؟».. ثم أدركتُ أن بخلاءَ الدعواتِ غيرُ ملومين. أنَّى نلومُهم وهم يسمعون الدعاءَ على هذا النحو من مشايخهم كلَّ حين؛ فيرددونه حرفيًّا كما هو، دونما يمرُّ على عقولهم لينظروا فى وجاهته. وأدركتُ أننى تعلّمتُ الدعاءَ للعالمين بالرحمة والشفاء والنجاح والنجاة من أبى وأمى اللذين أبدًا لم يسمحا بأن تدخل فى بيتنا أو عالمنا كلمةُ تمييز أو طائفية أو عنصرية، يكون من شأنها أن تُقلِّصَ بِساطَ الكون الشاسع إلى كمشةِ نسيجٍ صغيرة فى عُروة فصيلٍ أو فريقٍ أو طائفةٍ، من دون العالم المليارىّ. علّمنى أبى المتصوّفُ حافظُ القرآن أن مَن يحبَّ اللهَ حقًّا، لابد أن يحبَّ جميعَ خلق الله. وأنَّ من تمام حُبّ الله والإيمان المطلق بأنه الرحمن الرحيم أنْ نطلبَ منه الرحمةَ والمغفرةَ لنا وللبشر أجمعين. ومرَّت السنواتُ والعقودُ، ولم أزِد إلا استمساكًا بُحلمى القديم فى أن أشهدَ اليومَ الذى لا أسمعُ فيه دعواتٍ «بخيلةً» إلى الله الذى وسعتْ رحمتُه كلَّ شىء.
وأخيرًا.. اليومُ جاء، فى صلاة الجمعة الماضية ١٢ يونيو ٢٠٢٠، من مسجد مولانا الإمام الحسين، رضى الُله عنه وأرضاه، استمعنا إلى خُطبةٍ بديعة من الخطيب المثقف الدكتور «مصطفى عبدالسلام»، وكانت عن العبادات والأسباب التى تدفعُ البلاءَ عن بنى الإنسان. وفى ختام الخطبة القيّمة، رفعَ الخطيبُ دعاءه إلى الله تعالى قائلا: «اللهمّ اشفِ مرضانا ومرضى العالمين». ولم أصدِّق أذنى، فأعدتُ عرضَ مقطع الفيديو مرّاتٍ ومرّات لكى أتأكدَ من سلامة سمعى. أثلجَ الخطيبُ قلبى وحقّقَ حُلمى، بارك اللهُ فى علمه وفى قلبه. وقع دعاؤه على قلبى وقلوب أسرتى بردًا وسلامًا. نظرتُ إلى أفراد أسرتى وسألتُ: «هل سمعتم دعاءَ هذا الخطيب المثقف؟»، فهتفوا فى آن: «أخيرًااااااا». فقلتُ لهم فى فرح مشوبٍ بالحزن: «تصوروا أن هذه العبارة البديهية، استغرقتنى عمرًا كاملا حتى أسمعَها؟!».
فالحمدُ لله كما يليقُ بواسع حكمته أنْ جعل جائحةً فيروسية تحملُ فى طيّات جموحها الهادر رسالةً هادئة تقول للبشر إن التضامَّ والتحابَّ والتوادَّ والتراحمَ هو طوقُ النجاة لنا من المحنة اليوم، وبعد زوالها بإذن الله. علّ الَله سمح بتلك التجربة العسرة مع فيروس كورونا، لكى نتفكّر فى حياتنا وماذا فعلنا بها. تلك الثروة الهائلة: «الحياة»، فيمَ أهدرناها؟ فى الحرب أم فى السلام؟ فى المحبة أمْ فى البغضاء؟ فى إعمار الأرض أم فى قتل أخضرها وتعتيم أزرقها وتلويث صفاء سمائها؟ فى كفل الأيتام أم فى الاتّجار بأعضائهم؟ فى الترفق بالمرأة أم فى إذلالها؟ فى تعليم النشء أم فى تضليلهم؟ فى احترام العلوم والفنون الراقية أم فى تحريمها؟ فى نشر التنوير أم فى إظلام العقول؟ فى التعريف الحَسَن بربِّ الكون الواحد الأحد الرحمن الرحيم، أم فى تشويه صورته بالدماء والعنف والتباغض؟
اللهم ارحم موتانا وموتى العالمين. اللهم اشفِ مرضانا ومرضى العالمين. اللهم بارك فى أولادنا وأولاد العالمين. اللهم اغفر لنا ذنوبَنا واغفرْ للعالمين. اللهم باركْ بلادَنا الطيبةَ ونجِّها من كلِّ شرٍّ يا أرحم الراحمين.
من جديد، أشكر فضيلة د. مصطفى عبدالسلام، لدعائه الطيب بإسباغ الشفاء على مرضى العالمين أجمعين. اللهم بارك له فى علمه وقلبه العامر بالإيمان والتُّقى والوعى والثقافة والتحضُّر. اللهم استجب.
«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم