بقلم: يوسف سيدهم
العالم بعد كورونا لن يعود مثل العالم قبل كورونا.. هذا هو الهاشتاج الذي يأبي إلا أن يفرض نفسه علينا في كل منعطف… في كل مناقشة… في كل تداع نعيشه منذ بدء الأزمة. ملامح ذلك آخذة في التبلور في إعادة تشكيل منظومة العلاقات الإنسانية… الأسرية, العائلية, المجتمعية, المهنية, الرياضية, الترفيهية… وحتي السياسية… فكل هذه العلاقات أصبح يغلفها التوجس والحذر والحيطة ويتم إعادة صياغة سبل التواصل لتكون عن بعد وليس عن قرب, ولعل الفضل في ذلك أن كورونا باغتنا في عصر كنا نتحسر فيه من أن ما أتاحه من تكنولوجيا باعدنا عن بعضنا البعض, لكن ها هو ما تحسرنا منه -لسخرية القدر- بات طوق النجاة لاستمرار العلاقات الإنسانية دون مخاطرة ولا ضرر!!
ولا غرابة أننا الآن بتنا نسمع عن الاجتماعات الرسمية عن بعد, فاجتماعات مجلس الوزراء تتم بتقنية الفيديو كونفرانس, وطبيعي أن تحذو حذوها أجهزة ومؤسسات كثيرة, ولم لا؟… ألا يتم إنجاز العمل علي أكمل وجه دون مجازفة؟… وها هي اجتماعات مجالس إدارة الشركات تتم أيضا بذات التقنيات وتصادفنا الإعلانات المنشورة في الصحف -لأول مرة- تدعو لانعقاد اجتماعات الجمعيات العمومية العادية وغير العادية لمساهمي الشركات والمؤسسات أون لاين في ظل استخدام التطبيقات التكنولوجية التي تتيح التسجيل والحضور والمشاركة والتصويت عن بعد مع تسجيل وتوثيق ذلك كله بالصوت والصورة.
أما البعد الجديد غير المسبوق -علي الأقل في بلادنا -فهو العمل عن بعد, ولعل ذلك من أهم الملامح التي فرضها كورونا ومن المرجح أن تستمر بعد الخلاص منه… فقد اكتشف الكافة الذين تتيح طبيعة عمله إنجاز مهام العمل عن بعد أن هذه الوسيلة آمنة وعملية وتوفر الوقت ونفقات الانتقال ومخاطر الاختلاط, كما زحفت تكنولوجيا إنجاز العمل عن بعد لتقتحم مجالات عديدة وتعيد تشكيل علاقة المواطن بسائر الأجهزة الرسمية وأجهزة الخدمات والمرافق في الدولة علاوة علي الأجهزة المصرفية.. وغيرها.. وغيرها.. بما يبشر ببزوغ فجر جديد لعلاقات إنسانية ومجتمعية خالية من الأوراق والأحبار والبنكنوت والمخلفات والتلوث, وكلها معايير طالما تطلعنا إليها واعتبرناها بعيدة المنال, لكن شاءت سخرية الأقدار أن تصبح ممكنة بفضل كورونا!!
وإذا كنت أقول علاقات إنسانية ومجتمعية خالية من الأوراق والأحبار لا أخفيكم أنني أخطو دون قصد نحو المنطقة الحساسة التي نهرب منها جميعا نحن معشر العاملين في عالم الصحافة المطبوعة… فقد مضي زمن كنا نملك فيه ترف مناقشة مصير الصحافة المطبوعة والعمر المقدر لها للاستمرار في الفضاء الإعلامي قبل أن تودعه وتصبح ذكري, وكنا ننقسم -عمريا في غالب الأحوال- بين جيل متقدم في العمر يتشبث بالصحافة المطبوعة ولا يتصور عنها بديلا, وجيل شاب يعتبرها من أدوات عصور ولت, وحلت محلها أدوات أكثر حداثة وأسرع معايشة لمجريات الأمور… أما الآن فلم نعد نملك ترف تلك المساجلات, إذ بات علينا إعادة حساباتنا ومواءمة ثوابت إنتاج الصحافة المطبوعة مع مستجدات عصر كورونا وتوابعه في عصر ما بعد كورونا ومنها ما يلي:
** بالرغم من شيوع أساليب العمل عن بعد وزحفها علي العمل التحريري من اجتماعات وتغطيات ميدانية وصياغة مواد إلكترونيا وتبادلها عبر وسائط التواصل وخلافه, تظل هناك في كل مؤسسة صحفية شرائح من دوائر المراجعة والدسك وتصميم الصفحات والجمع والتصحيح والفوتوشوب وسكرتارية التحرير والإعلانات- حتي وإن كانت تمارس عملها بواسطة أدوات وبرامج تكنولوجية حديثة- لا غني لها عن التواصل والتنسيق المباشر لإنجاز العمل… ناهيك عن المراحل النهائية لإنتاج الصحيفة المقروءة من إعداد ما قبل الطباعة والطباعة والتوزيع… إلي آخر ذلك من رحلة الصحيفة حتي تصل إلي يد قارئها.
** تلك الكوادر- ويضاف إليها سائر الكوادر الإدارية والمالية والخدمية- لاتزال تدعوها الحاجة للذهاب إلي مقر العمل… لكن تطاردها مخاوف مرعبة إزاء المخاطر التي قد تتعرض لها في وسائل المواصلات والتجمعات وداخل مقار العمل نفسها, حتي أصبحت تتشكك في الزملاء وتتربص بأي بادرة أعراض مرضية تظهر علي أحد, فتسارع للابتعاد لتنجو بنفسها من الخطر المحدق بها… وصحيح أن هناك تعليمات صارمة مفروضة علي جميع المؤسسات الصحفية بتدابير التطهير وعدم الاختلاط أو التجمع, لكن الثابت أن معدلات الغياب إيثارا للسلامة آخذة في التزايد وعرقلة سريان العمل بشكل طبيعي.
** هذا المناخ المضطرب وما يفرضه من أعباء وتكاليف غير منظورة تقع علي عاتق المؤسسات الصحفية- أقل ما فيها غل يد الإدارة عن محاسبة متغيب عن العمل سواء بدعوي المرض أو بدعوي السلامة- والتزامها بتغطية كافة مستحقات العاملين فيها, لا يخلو من عاملين مدمرين لأي صحيفة وهما شح الإعلانات نتيجة انحسار الإنتاج ومعاناة جميع مجالات الأعمال علاوة علي تدني التوزيع نتيجة انكماش السوق وحذر المستهلكين.
*** هذه نظرة فاحصة -قد تبدو متشائمة عكس طبيعتي- لواقع الصحافة المطبوعة هذه الأيام, ولعلها تضع أمامنا سؤالا شائكا نحيناه جانبا لفترة طويلة: هل جاء وقت انسحاب الصحافة المطبوعة من السوق؟… أم هل يقدر للصحافة المطبوعة أن تجتاز كورونا؟