رأفت تادرس
معضلة الزمن الطويل: القمر الهارب
عزيزي القارئ، منذ عدة ايام تعلقت انظار المسلمين في كل العالم بالقمر وهلاله للمرة الثانية لتحديد بداية رمضان'> شهر رمضان ثم نهايته حيث ميعاد عيد الفطر للأحباء المسلمين، وحول هذا القمر بالتحديد يدور موضوعنا الذي يمثل تحديا جديدا عجزت نظرية التطور عن إيجاد حل له حتى الآن.
القصة باختصار شديد هي ان العلماء عندما بدأوا منذ شرع البشر في غزو الفضاء والهبوط على القمر في قياس وتسجيل مسافة بعد القمر عن الأرض لاحظوا ان مدار القمر يتسع كل سنة بمقدار بعض السنتيمترات، واعطوا هذه الظاهرة اسما هو "هروب القمر" او "Moon Recession"، في سنة 1977 كان معدل التباعد 5.6 سم/سنة وهو المعدل الذي نقص الى 4.5 سم/سنة في الثمانينات وصولا الى القياس الحالي وهو 3.78 سم في السنة كمعدل لتباعد القمر عن الأرض. تأثير هذا التباعد ليس كبيرا بالقياس الى المسافة التي تفصل القمر عن الأرض وتبلغ 384,400 كم لو تم حساب هذا التأثير لبضعة آلاف من السنين في الماضي، اما لو حسبنا أثر هذا التباعد في زمن بالمليارات او حتى بالملايين فسنجد كارثة تحيق بنظرية التطور ذات العمر الطويل
والآن الى بعض التفاصيل:
هل القمر مهم للحياة على الأرض؟
لا يختلف أحد من العلماء على أهمية القمر بخصائصه الحالية للحياة على الأرض وان بدونه لم تكن هناك أي فرصة لنشوء او استمرار الحياة على الأرض، فالقمر مثلا يساهم في المد والجزر في البحار الذي يقلب مياه البحار ويعيد توزيع المياه الدافئة، ثم على الرياح والمناخ وكلها عوامل لا غنى عنها للحياة، وحديثا وجد العلماء ان القمر يمثل بجاذبيته عامل ثبات للأرض والذي بدونه كانت ستحدث اهتزازات مدمرة للأرض في ظاهرة تحدث في عدة كواكب من مجموعتنا الشمسية.
بعض الحقائق عن القمر
بينما يبلغ حجم القمر حوالي 27% بالمقارنة بحجم الأرض نجد ان وزنه يبلغ حوالي 1.2% فقط من وزن الأرض، أي ان كثافة الأرض أكثر ب 40 مرة من تلك التي للقمر ويعزو العلماء ذلك الى النقص الواضح لعنصر الحديد في تركيب القمر، تبلغ جاذبية القمر حوالي 16.6% من جاذبية الأرض ويدور حول الأرض على بعد يبلغ الآن حوالي 384,400 كيلومترا من الأرض في مدار شبه دائري.
كيف تكون القمر؟ وكيف اتخذ مداره حول الأرض؟
إذا كان وجود القمر بهذا الحجم بهذا البعد عن الأرض بالإضافة الي سرعة دورانه حول الأرض يمثل صدفة فلكية فهي صدفة تصل الى حد الاعجاز في سلسلة لا نهاية لها من الصدف التي ساهمت في جعل كوكب الأرض صالحا للحياة، والصعوبة هنا هي في التوازن الفائق الدقة في حجم القمر وكثافته ووزنه وسرعته وبعده ومداره بالإضافة الى عوامل الجاذبية من الأرض او الشمس او بقية الاجسام الفضائية المحيطة، مع العلم ان أي تغير ولو طفيف في واحدة او أكثر من هذه المعطيات هو حكم بالموت على كل فرص الحياة على الارض.
وفي إطار نظريات التطور الكوني والنجمي كان لا بد من إيجاد تفسير لوجود القمر واتخاذه لمداره الحالي حول الأرض، ولعل الحديث عن هذه النظريات يحتاج حديثا منفصلا لكن دعوني اسرد على عجل بعض اهم النظريات المطروحة:
• ترى نظرية الاصطدام ان القمر نشأ بسبب اصطدام جانبي لكوكب في حجم المريخ بأطراف الأرض منذ 4.36 مليار سنة. اعطى العلماء لذلك الكوكب اسم "ثيا" او "Theia"، وتكون القمر من بقايا باطن ذلك الكوكب التي ارتدت بعيدا عن الأرض بعد الاصطدام جاذبة اليها جزءا من الغبار والاحجار الناتجة عن التصادم المريع مكونة القمر الذي اتخذ مداره المعروف حول الأرض من وقتها. واحدة من اهم الاعتراضات على هذه النظرية هو فقدان القمر الواضح لمقدار الحديد المتوقع من مثل هذا التصادم مع الأرض الغنية بالحديد، وأيضا ان مثل هذا الاصطدام كان سيضع القمر على زاوية شديدة الاختلاف عن زاوية المدار الحالي للقمر
• تفترض نظرية الاصطياد ان القمر كان جسما فضائيا سابحا في الفضاء حتى اصطادته الأرض الى مداره حولها فيما يشابه ما يفعله أمهر لاعبي السيرك بحيث يظل القمر في ذلك المدار فلا يقع بعيدا عن الأرض او يقترب أكثر من الأرض فتبتلعه جاذبيتها. المعترضون على هذه النظرية يقولون ان اصطياد جسم كبير كالقمر كان سيؤثر على شكله ليصبح مستطيلا كالمذنبات وليس كرويا كما هو الآن، كما ان الاصطياد ذاته يتطلب بالضرورة ان القمر كان يتحرك بسرعة وعند اقترابه من الأرض يستطيع ان يبطئ سرعته ذاتيا كما لو ان لديه فرامل، وهذا بالطبع غير متوقع في الطبيعة.
• تقول نظرية التزامن ان الأرض والقمر تكونا معا من كوكب آخر انقسم او من نفس السحابة السديمية، هذه النظرية تتحاشى عيوب نظريات الاصطدام والاصطياد ومشاكلهما الكثيرة لكنها تفشل في تفسير نقص الحديد في القمر عن ذلك الذي في الأرض، أيضا يستحيل تصور وجود واستمرار توازن الجاذبية بعد تكون الأرض والقمر عبر التغيرات الكثيرة والعصور الطويلة.
في المقابل هناك بالطبع نظرية الخلق التي تقول ان هناك خالقا حكيما محبا للحياة خلق كل الكون وفي قدرته ان يقول كن فيكون في لحظتها وبدون التطور وملياراته وهو الذي وضع القمر في مداره المتناهي الدقة في الحجم والوزن والبعد والسرعة وغيرها من كل العوامل شديدة الأهمية للحياة. فهل آن الأوان لكي يضع علماء التطور هذه النظرية في حساباتهم، ام هم يرفضون الخالق؟
كيف نقيس مقدار بعد القمر عن الأرض؟
في سنة 1962 تم اختراع أشعة الليزر التي يمكنها قياس المسافات بحساب سرعة ذهاب واياب الضوء من والى الاجسام المختلفة، وفي سنة 1969 قام رواد الفضاء في رحلة ابوللو 11 بزرع عاكسات ضوئية في عدة مواضع على سطح القمر، هذه العاكسات مكنت العلماء من قياس بعد القمر عن الأرض بصورة دورية ودراسة مداره ومعدل تباعده عن الارض، كثير من الهواة غير المتخصصين يمكنهم أيضا القيام بهذه القياسات بواسطة توجيه اشعة الليزر الى تلك العاكسات وحساب زمن الرجوع لمعرفة المسافة بدقة فائقة فلا مجال للاختلاف على تلك القياسات.
كما ذكرنا، فانه من المتفق عليه ان القمر يتباعد عن الأرض بمعدل حالي يبلغ 3.78 سم كل سنة وان هذا المعدل يتناقص بالزمن أي انه كان أقوى في الماضي.
أسباب تباعد القمر عن الأرض
يعزو العلماء أسباب نفور القمر هو هروبه من الأرض الى التأثير العكسي للمد والجزر بمصاحبة تأثير دوران الأرض وجاذبية الشمس مما يسبب عملية هروب القمر.
معضلة دلالة تباعد القمر في الماضي
إذا تجاهلنا ان معدل الهروب كان اعلى في الماضي وافترضنا ان معدل هروب القمر عن الأرض ثابت على معدله اليوم أي 3.78 سم/سنة سنجد بحسبة بسيطة النتائج التالية:
• منذ 1,6 مليار سنة كان القمر ملامسا لسطح الأرض في بعض المواضع، مسببا استحالة لوجود الحياة واستمرارها وتطورها، وهي تلك الحياة التي افترضت نظرية التطور نشأتها منذ 3,6 - 4,1 مليار سنة! أيضا كان مستحيلا على القمر ان يغادر الأرض ويأخذ مداره حولها، النتيجة هي عدم وجود حياة واختصار ثلث الوقت المتاح للتطور.
• منذ 1.2 مليار سنة كان القمر بالفعل في داخل الغلاف الجوي الأرضي مسببا اعاصيرا يومية أقوى بمليون مرة من المعروفة حاليا وكانت الجاذبية الأرضية من القوة لمنع أي هروب من الأرض بواسطة الجاذبية الأرضية، النتيجة هي عدم وجود حياة وفقدنا ثلاثة أرباع العمر المطلوب للتطور
• وحتى منذ 500 مليون سنة كان القمر على بعد حوالي ثلثي المسافة الحالية من الأرض أي حوالي 250,000 كم من الأرض (Roche Limit) وهو البعد الذي فيه تصبح فيه الجاذبية الأرضية أقوى من عوامل الطرد مما سيؤدي الى تفتت القمر وانجذابه الى الأرض، وهنا يتبقى من ال 4,1 مليار سنة للتطور فقط نصف مليار سنة، ولكن هذا ليس كل شيء!
الآن نعود الى الحقيقة المقاسة وهي ان معدل هروب القمر معدل متناقص بالزمن، أي ان هذا المعدل كان أسرع في الماضي من الآن او ما يسميه العلماء ب "عجلة عكسية للسرعة"، فإذا أدخلنا هذا العامل سيصير لدينا 12 مليون سنة فقط قبل ان تبتلع الأرض القمر! وحتى هنا سيكون أثر القمر على المد والجزء مازال من القوة العاتية بحيث يدمر كل فرص الحياة، فأين اذن هو الوقت اللازم للتطور؟
الأثر المدمر للقمر القريب من الأرض؟
كما قلنا فإن للقمر تأثير شديد الأهمية على المد والجزر وأيضا على تكون الرياح وحركتها على الأرض، وهذان العاملان اساسيان لتوزيع الحرارة او البرودة على المناطق الجغرافية المختلفة وجعل الأرض صالحة للحياة. اما لو كان هذا التأثير زائدا على الحد بسبب القرب الشديد من الأرض فسيكون مدمرا تماما لفرص الحياة، وهذا ما دعا بعض العلماء الى القول بأن وضع القمر منذ مليار سنة كان قريبا الى الدرجة الكافية لتسبيب اعاصيرا وتسونامي عاتية تصل الى مئات الآلاف من المرات أقوي من تلك التي تصيب الأرض حاليا وذلك في كل دورة له حول الارض، يساهم في ذلك ان المدار الأقصر للقمر سيجعله يدور حول الأرض 3,7 مرة كل يوم، هذا يعني مرات عديدة من التسونامي العملاقة التي تصيب الأرض عدة مرات في اليوم الواحد مدمرة كل مظاهر وفرص الحياة على الأرض، ونحن هنا نتكلم على قياسات محسوبة ويمكن للكل ملاحظتها وحسابها وتوقعها وليس كالفرضيات التي تفرضها علينا نظريات التطور بدون برهان.
بناء على هذه الحسابات يكون القمر على البعد المناسب للحياة منذ حوالي 8 آلاف سنة فقط وما هو أقدم من ذلك لا يصلح لنشوء واستمرار الحياة.
ردود علماء التطور على هذه القياسات
قام علماء التطور بالطبع بالرد على تلك التحديات لنظريتهم، وهنا نسرد النظريتين الأكثر تداولا في ردودهم على هذا التحدي
• قال هانسن Hansen ومعه فينش ثم براش Finch and Brush بدءا من سنة 1982 ان المسافة بين الأرض والقمر لم تقل ابدا عن حد روش (Roche Limit) أي 250,000 كم، وهي كما ذكرنا المسافة الأدنى قبل ان تبتلع الجاذبية الأرضية جسما بمواصفات القمر، وادعى وصول القمر الى وضع التعادل بين قوى الجذب والطرد في هذا البعد، واستخدم هانسن كبرهان في تفسيره الظاهرة المعروفة باسم "التبدد المدي" او Tidal Dissipation وهو اثر الدفء الناتج عن طاقة المد والجزر، وتجاهل فيه ان هذا العامل او العامل الأهم في طرد او تباعد القمر أي ان اثره عكس ما يدعيه كما انه لم يقدم أي تفسير على العوامل التي ادت الى تحييد التباعد وتثبيت بعد القمر بالرغم من ان الجاذبية الأرضية كانت اقوي بكثير لقرب القمر، ولم يقدم تفسيرا ضد خطر تغلب الجاذبية الأرضية على عوامل الطرق بما يمنع ابتلاع القمر، وايضا نجد انه بحساباته هذه يصل الى عمر للقمر لا يزيد عن مليار سنة فقط، فماذا عن بقية المليارات الباقية في نظرية التطور؟
• استخدم آخرون اكتشافهم لطبقات ترسيبيه في قاع بعض البحيرات للدلالة على ثبات بعد القمر والبطء الشديد لهروبه وادعوا ان طبقات الترسيب تشير الى عدد مرات المد والجزر وقافزين الي نتيجة ثبات بعد القمر عبر عصور فائقة الطول، لاقت هذه الافتراضية هجوما شديدا لأن العلماء اكتشفوا ان طبقات الترسيب المشار اليها قد تكونت كلها في أسابيع او شهور قليلة فيما لا يمكن تفسيره بغير الطوفان الكتابي، وبهذا يكون هذا البحث هو اثبات على عكس ما أراد الباحث اثباته.
الخلاصة
تمثل حقيقة تباعد القمر عن الأرض بمثل هذه السرعة مشكلة كبيرة لنظرية طول عمر القمر والأرض والحياة، فما ان يبلغ طول عمر القمر أكثر من بضعة آلاف من السنين حتى تتضاءل فرص الحياة على الأرض بشدة ثم سريعا ما تختفي تماما.
نحن نتعجب لماذا لا نسمع عن مثل هذه التحديات لنظرية التطور لكننا نسمع فقط فرضية التطور والاعمار السحيقة؟
العلم بطبيعته يتطلب فحصا واعتبارا للنظريات المختلفة، فلماذا يرفض علماء التطور فحص نظرية وجود خالق حكيم محب للحياة والخليقة وانه هو الذي صمم الأرض والقمر والكون كله ووضعهم هكذا في مداراتهم مصمما لنا هذا الكون الفائق الدقة والجمال؟
في المرة القادمة سنتناول تحديا صارخا آخر عن التطور العضوي وهل يصلح ان تتكون البروتينات في الطبيعة ام تحتاج لخالق يصممها بلمسته العجيبة؟ حتى ذلك الحين ابقوا سالمين.