كتبت منذ فترة عن متاعب المرور في الشارع المصري, وعددت نماذج من أوجه القصور سواء تلك التي ترجع إلي سوء إعداد سائقي المركبات, أو التي ترجع إلي سوء تخطيط الطرق, أو التي ترجع إلي عدم تطبيق قوانين المرور بيقظة وصرامة طوال الوقت والاكتفاء بالانقضاض الفجائي للإيقاع بالمخالفين وكأن العقاب والردع وحدهما هما وسيلة تحقيق الانضباط بدلا من حسن الإعداد وتوطيد السلوك.
وأعود اليوم لأسوق نماذج أخري من أوجه المعاناة التي لا أعتقد أنها تغيب عن إدراك المخططين أو المسئولين ولكني أشك للأسف أنها متروكة لا يتصدون لعلاجها لمجرد أنهم لا يعانون منها… وكيف يعانون منها إذا كانوا في غمرة أعبائهم ومسئولياتهم يستقلون سيارات رسمية يقودها سائقون وتنطلق عبر طرق مؤمنة لسرعة مرورهم غير عابئة بتعليمات المرور ومحاذيره, غير مأسورة في زحام الطرق المكدسة غير قلقة علي موعد بلوغها مقصدها أو أماكن وقوفها وانتظارها… ولا أخفيكم القول إني طالما تمنيت أن تحذو بلادنا حذو كثير من الدول المتقدمة في سحب السيارات الرسمية والسائقين من خدمة المسئولين فيما يتجاوز أعباء العمل الرسمية وتشجيعهم علي قيادة سياراتهم الخاصة -بدون سائقين كلما أمكن- حتي يختبروا واقع الطرق والقيادة والسلوكيات والانتظار بشكل عملي بعيدا عن التقارير الرسمية ويتعرضوا لمختلف أوجه المضايقات والمعاناة حتي تكون قراراتهم وتقييمهم وتحديثهم للتطوير نابعة من أرض الواقعة وغير منفصلة عنه… وإليكم أمثلة علي ما أقول:
** بعد معاناة هائلة امتدت زهاء أربعة أشهر -وماتزال مستمرة في بعض المناطق- بسبب أعمال الإنشاءات للكباري علي المحاور الرئيسية والتقاطعات المهمة في قطاع شرق القاهرة, لتحقيق سيولة مرورية تناسب نمو الحركة من وإلي التجمعات العمرانية الجديدة علي طريق السويس وصولا إلي العاصمة الإدارية الجديدة, تحققت بالفعل السيولة المرورية المستهدفة وتدفق الحركة المطلوب… لكن صاحبت ذلك ظاهرة غريبة ورثتها المحاور الرئيسية التي تمت توسعتها وهي ندرة أماكن انتظار السيارات… فبعد أن كانت جميع هذه المحاور تتسع لحارتين لحركة السيارات وتسمح بالانتظار في اتجاه متعامد علي الرصيف أصبحت تتسع لخمس حارات مع وضع لافتات تحدد الانتظار صف واحد مواز للرصيف (!!!) ولكم أن تتصورا مقدار العذاب والمعاناة الناتجين عن هذا التعنت من قبل إدارة المرور حيث انتقصت زهاء نصف الطاقة الاستيعابية للانتظار بالرغم من مضاعفة عرض الطريق مرتين ونصف ودون أن توفر أماكن انتظار بديلة مثل ساحات الانتظار أو الجراجات متعددة الأدوار… وأعود وأقول كيف سيشعر أي مسئول وهو يزهو بإنجاز الكباري وتدفق الحركة بالغبن الذي وقع علي سكان تلك المحاور والمترددين عليها بسلبهم نصف أماكن الانتظار إذا كان لا يقود سيارته ويختبر ذلك بنفسه؟
** من الأمور التي تحقق الانضباط والأمان في القيادة علي الطرق وخاصة الرئيسية منها, تحديد السرعات القصوي التي لا يتجاوزها السائقون… وغني عن القول إن ذلك التحديد له فضل كبير في كبح جماح المنفلتين وردع مهاويس السرعة الذين طالما أثاروا الفزع والرعب علي الطرق… لكن هناك أمرا يستعصي علي الفهم ويتطلب التفسير من إدارات المرور المختصة, وهو عندما تظهر لافتات علي طرق سريعة تسمح بالحركة المعتادة -عند حد 90 كيلومترا/ ساعة مثلا- لتحذر السائقين من تجاوز سرعة 60كيلومترا/ ساعة في قطاع محدود دون إبداء الأسباب (!!)… ويفاجأ السائقون بهذا الوضع الغريب ومعظمهم يخالفونه سواء عن سهو أو عن عمد مما يعرضهم لعقوبة مخالفة السرعة, ويبدو الأمر للكثيرين وكأنه شرك تزرعه إدارات المرور لاصطياد أكبر عدد ممكن من المخالفين (!!)… ومن الأمثلة الصارخة علي ذلك الواقع أيضا حد السرعة القصوي السائد في نفق الأزهر وهو 50كيلومترا/ ساعة والذي لا يلتزم به السائقون ويرون فيه أمرا غير متناسب مع ما يسمح به النفق ومنحنياته, بل إنهم يطالبون بمراجعته إذا كان مطلوبا منهم الالتزام به.
** ظاهرة مستشرية في تقاطعات شوارع وسط القاهرة تخلق مشاكل جمة وتسبب معاناة للسائقين وتساهم في تكدس وتعطل المرور… والغريب أنها تحدث -وتستمر تحدث… وتترك تحدث -في ظل وجود الإشارات الضوئية ورجال المرور غير المؤهلين للتعامل معها… إنها تكدس السيارات التي تتبع الضوء الأخضر حتي تغلق منطقة مربع التقاطع, فإذا تحول الضوء الأحمر إلي الضوء الأخضر للسيارات في الاتجاه المتعامد تعذر عليها الحركة لأن الطريق مغلق (!!!)… ولا يستعصي علي أي مخطط للمرور أو رجل مرور مؤهل أو حتي سائق مثقف أن يعرف أنه -بالرغم من الضوء الأخضر- لا يسمح للسيارات بعبور منطقة التقاطع إذا كانت ستقف فيها لتعوق الحركة في الاتجاه العمودي… ومن المألوف في الدول المتقدمة أنه يتم تخطيط مربع التقاطع بخطوط بيضاء متعامدة كعلامة علي أنه محظور إطلاقا الوقوف عليها, لكن هذه أيضا ظاهرة مجهولة عندنا, غائبة عن المخططين ورجال المرور والسائقين علي السواء… ولا يشعر بها المسئولون لأنهم لا يتعرضون لها ولا يعانون منها!!
*** هذه باقة أخري من نماذج القصور والمعاناة علي طرقنا… وهي ليست الأولي ولن تكون الأخيرة طالما بقيت الفجوة التي تفصل بين المشرع والمستخدم!!