كمال زاخر
11 ـ الإنسان يبارك الله !
نفس السؤال الذى يقفز أمام القارئ "كيف يجوز للإنسان أن يبارك الله؟" يطرحه الكاتب هنا، ويفسح سطوره فى سياق الشرح لأمثلة يوضح من خلالها معنى هذه البركة ومضمونها، وينبه ذهن القارئ "أن مباركة الله تأتى دائماً كنوع من أنواع الصلاة، كما تأتى مقترنة بالسبب الذى قدمن من أجله صلاة البركة هذه".
ويحرص الكاتب على تتبع تأثيرها على صلوات الكنيسة الطقسية خاصة فى "الأواشى"، فأوشية المسافرين ليست بعيدة عن صلاة العبد الذى ارسله ابراهيم لاختيار زوجة من عشيرته لإبنه اسحق، "وَخَرَرْتُ وَسَجَدْتُ لِلرَّبِّ، وَبَارَكْتُ الرَّبَّ إِلهَ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هَدَانِي فِي طَرِيق أَمِينٍ" (تك24 :48)، وهنا تأتى البركة كصلاة شكر من أجل هداية السفر.
ونفس التطابق يتكرر مع الصلاة التى تقال بعد قراءة الإنجيل أو قبل صلاة المجمع سواء كانت اوشية الثمار او الزروع أو المياه والتى تستلهم كلماتها من سفر التثنية "فَمَتَى أَكَلْتَ وَشَبِعْتَ تُبَارِكُ الرَّبَّ إِلهَكَ لأَجْلِ الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ الَّتِي أَعْطَاكَ."(تثنية 8 : 10).
ويتكرر الأمر مع بقية الأواشى، ونجده ايضاً فى الرشومات وصلاة الصلح فى القداس، وتكاد كلمات البركة بامتداد القداس أن تتطابق مع ما ورد متعلقاً بالبركة فى العهد القديم، وفيما ينتهى الأمر فى القديم بالذبائح، ينتهى فى القداس بالتناول.
المعنى الروحى واللاهوتى للبركة بين العهد القديم والعهد الجديد
البركة، فى اليونانية "أولوجيا أو إفلوجيا"، فى معناها العام تعنى "كلام حسن وصالح" وتعنى أيضاً "كلام الشكر"، لكنها فى المعنى العبراني تفيد "عهد" قائم.بين الله وابراهيم، (وفى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرآم ميثاقاً قائلاً : لنسلك أعطى هذه الأرض .... وأقيم عهدى بينى وبينك وبين نسلك من بعدك فى اجيالهم عهداً أبدياً) (تكوين 15 : 18 و 17 : 7)، البركة إذاً هى (حالة عهد قائم بين الله والإنسان)، وهى أى البركة تصدر عن أمانة الله لعهده ووعده، ولكنها لا تستقر إلا عند من كان أميناً على عهد الله ووعده، وبقدر طاعة الإنسان لوصايا وأوامر الله تحل البركة وتزيد.
ويحرص الكاتب على تأكيد أن البركة فى العهد لقديم "مادية محضة لأن العهد التى هى قائمة عليه مادى، فهى لا تتجاوز الكثرة والملء والشبع والراحة والمسرات الأرضية". وينبه إلى أن هذه البركة "لم تعد مقبولة تماماً ولا نافعة لكثير فى العهد الجديد، لأن العهد الجديد روحى قائم على تملك السماء لا الأرض وعلى بنوية الله وليسإبراهيم ولا موسى «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي (العبادة المزيفة) لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ».(يوحنا 6 : 26 و 27).
ويستطرد فى تحديد مفهوم البركة فى العهد الجديد؛ بعد أن يشير إلى معجزتى اشباع الجموع من الخمس خبزات والسمكتين وعرس قانا الجليل، "المسيح بكلمة منه أخرج المادة عن حدود طبيعتها، حدود العدد والكمية والنوع، وكان ذلك تمهيداً لإعلان بركة العهد الجديد. وهى ليست قائمة فى العالم بل فى المسيح نفسه، فالمسيح هو خبز وماء ووطن وسماء"، "البركة فى العهد الجديد بركة فداء، فداء للخليقة القديمة نفسها لتعتق من ناموس الطبيعة جملة وتفصيلاً. الفداء جاء ليفصل بين الخليقة العتيقة ببركاتها وبأفخر نواميسها وأعظم خيراتها، وبين الخليقة الجديدة. الخليقة الجديدة هى أعظم بركات الله التى استعلنت فى يسوع المسيح للإنسات والتى سيكمل استعلانها بمجئ الرب يسوع فى مجده، حيث تشترك الخليقة المفدية فى مجد الرب يسوع إلى الأبد.".
ويقدم الكاتب إجابة على السؤال : كيف يبارك الإنسان الله "أما من جهة البركة التى يقدمها الإنسان لله: فكلمة البركة تأتى أيضاً بحسب معناها الحرفى "الكلمة الحسنة الصالحة"، لكنها هنا كلمة انسان لا كلمة الله، وكلمة الإنسان ليست فعلاً، وإن حسبناها تجاوزاً أنها فعل فهى ليست على أى حال فعَّالة ككلمة الله، وإنما مجرد جهد مبذول على مستوى الفكر والشعور والقلب واللسان وقيام وسجود ورفع يدين"، لكن هذا الجهد المبذول هو بالنسبة للإنسان أقصى ما يمكن للإنسان أن يقدمه لله. بل وإن مباركة الله بالقلب واللسان تعتبر ذبيحة على كل حال، حينما يكون رفعها أو اصعادها (أنافورا) بالعقل مع كل القلب لله وبأقصى ما يمكن من شعور الانسحاق والتذلل والشكر وبذل الذات.
ويجيب الكاتب على سؤال ما الفرق بين البركة التى يبارك بها الله الإنسان وبين البركة التى يبارك بها الإنسان الله؟
"الفرق بينهما كبير؛ فبالرغم من أن البركة ـ ككلمة صالحة أو حسنة ـ هى من حيث المضمون اللغوى بل والمعنوى واحد إذ لا تخرج البركة فى الإثنين عن كونها كلمة و"كلمة صالحة"، إلا أن المضمون التأثيرى والعملى لبركة الله تمتد لتصل إلى حد الفعل الخالق والمجدد للطبيعة لحساب الإنسان المحب والطائع والخاضع لكلمة الله، فيما هى حينما تصدر من الإنسان لله، فإنها تبتدئ تأخذ معنى محدوداً جداً يتناسب مع ظروف نطقها، لأن الإنسان إذا تكلم كلاماً صالحاًأمام الله وموجهاً لل، فإنه لا يمكن أن يخرج بأى حال من الأحوال عن الشكر، لذلك فكلمة "البركة" الأولوجيا إذا كانت موجهة لله فإنها تُترجم "شكر"، حتى ولو بقيت كما هى "أولوجيا"، فإنها لا تفهم إلا على أنها "شكر" أى افخارستيا.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
نلتقى فى الحلقة القادمة مع المعنى العميق للإفخارستيا