فاروق عطية
نحن الآن في شهر رمضان وكل سنة والبشرية جميعا مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس وسيخ وكونفشيوس وبراهمة ومجوس وبهائيين وأزيديين ومندائيين وكل من له دين أو ملحدين جميها في سلام ومحبة في شهر الصوم وعبادة الرحمن بالرغم من كورونا والحجر والكرنتينا.
ولرمضان عندي الكثير من الذكريات التي أحب أن تشاركوني فيها.
ففي الطفولة ومرحلة الدراسة الابتدائية (بداية أربعينيات القرن الماضي) كانت الأضواء ذات الألوان الجميلة المبهجة المعلقة علي مآذن المساجد وعلي مداخل الشوارع والبيوت بمدينتنا طهطا تخطف أبصارنا وتبهر أنظارنا. نتجمع كأطفال الشارع مع بعضنا البعض إميل وحسن وعلي وسيد وجورج وحلمي ومصطغي وأنا، ومعنا الفوانيس بداخلها شموع موقدة بعد الأفطار ونمر علي بيوت جيراننا طارقين الأبواب ونحن ننشد: إدونا العادة ألله خليكم. وكل بيت من بيوت الجيران يعطينا حاجة، سوداني بندق لوز جوز ملبس أو قطع قمر الدين، وبعد الجولة نُقسّم ما حصلنا عليه من هبات.
الحياة كانت بسيطة وحلوة وكل شيئ موجود في الأسواق ومتاح لكل البيوت، ولا يحتاج الصائمون لشراء شيئ جديد وخاص برمضان كما يحدث الآن. ورغم أن رمضان كان يأتي في عز الحر ودرجة الحرارة لا تقل في الصعيد عن 45 درجة مائوية لكني لم ألحظ يوما نرفزة أو خناقات بين الناس تعللا بالحر والصيام كما يحدث الآن. وكانت الطيبة والسماحة تملأ الوجوه ولم يحدث يوما أن اعترض صائم شخصا يأكل في مطعم أو حتي في الطريق، وإن كنا نحن المسيحيون نحاول قدر الإمكان مراعاة شعور جيراننا الصائمين فلا يظهر أحدنا شاربا أو آكلا أمامهم.
ذات يوم حدثت وعكة صحية لجارتنا الحاجة أم مصطفي وكعادة الصعايدة عند زيارة جار مريض لا بد من بعض الفواكه والمشروبات كهدية، وبالطبع أنا من يحمل هذه الهدية في صحبة أمي. وبعد الترحيب بنا إذ بصاحبة الدار تحضر لنا بعض العصائر لنشربها. حاولنا الاعتذار مراعاة لشعورها كصائمة ولكن السيدة أصرت قائلة والابتسامة تملأ وجهها: نحن صائمون فريضة فما ذنبكم أنتم لتصوموا معنا، نحن نسعد حين نراكم تأكلون وتشربون ولا يضيرنا ذلك. وأتبعت ذلك بالنداء علي ابنها مصطفي الذي كان في حجرة نومه قائلة: واد يا مطصفي هات طبق الكنافة من النملية (لم يكن هناك ثلاجات في البيوت) وأردفت: تعالي صاحبك عندنا..وأصرت مع القسم بأغلظ الأيمان بأن لابد لنا من أكل الكنافة.
وفي فترة الفتوة ومرحلة الدراسة الثانوية تشعبت صداقاتنا وامتدت لتشمل زملاء الدراسة دون تفرقة أو حتي معرفة من منا مسلم ومن منا مسيحي. وفي ليالي رمضان كانت بعض الأسر الكبيرة كعائلة رفاعة الطهطاوي أوعائلة عبد الآخر أوعائلة عنبر يقيمون ليالي رمضانية يُتلى فيها القرآن وتُنشد الموشحات الدينية في سرادقات بجوار دورهم. كان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في ذلك الوقت في بداية العشرينات من عمره ولازال طاليا أزهريا ولم يكن بعد قد اشتهر إلا في موطنه (مديرية قنا) وبعض مدن الصعيد كمدينتنا. كان الشيخ عبد الباسط هو المقرئ الدائم لعائلة عنبر (الوفدية) وكنا مسحورين بصوته العذب الرخيم. بعد أن بنتهي من تلاوة القرآن ينشد بعض التواشيح الدينية والمدائح ثم يعرج علي أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وكنا نتحلق حوله لنردد معه الأغنيات.
أما عائلة عبد الآخر (الدستورية) كان يصدح في لياليها الشيخ سيد النقشبندي. كان الشيج سيد في ذلك الوقت في الثلاثينات من عمره وكان مشهورا عندنا باسم سيد الماواردي. انتقلت أسرته من قرية دميرة بالدقهلية إلي طهطا وهو في العاشرة تقريبا مع أمه وأخته لواحظ وزوج أمه الشيخ الماوردي الذي كان يمتهن تجارة الماورد والزيوت العطرية والدهانات ويقوم بتوزيعها بمدن الصعيد. كان منزله مجاورا لمنزلنا بشارع عنبر مما أوجد صداقة أسرية بيننا وبينهم. كان الشيخ سيد الماوردي(النقشبندي) يقرأ القرآن وينشد التواشيح والابتهالات بسرادق عائلة عبد الآخر، وفي النهاية يعزف علي العود عزفا مميزا لا يجاريه أحد في روعته خاصة حين يصدح بأغاني فريد الآطرش "تعالي سلم" أو "نورة" وكنا نردد معه ككورس. وكثيرا ما كنا كأصدقاء وجيران ما نذهب إلي منزله فيعزف لنا أرق الألحان. وفي عام 1955م انتقل الشيخ سيد وأسرته إلي طنطا.
وفي بداية السبعينيات بعد النكسة وتحطيم مصانعنا بالسويس (شركة النصر للأسمدة والصناعات الكيماوية) تم انتداب البعض منا للمساعدة في تشغيل مصنع الأسمدة الأزوتية بحلوان (التابع لشركة الكوك). في هذه الأيام ربما لما تعرضت له مصر من انتكاسة، وتولي الرئيس المؤمن أنور السادات السلطة خلفا لعبد الناصر، وتشجيعه الأرعن للجماعات الإسلامية للتخلص من الناصرية، بدأ التغير في سلوكيات الناس مع المدّ الإسلامي الممنهج، وزيادة الاهتمام بمظاهر التدين أكثر من التدين نفسه.
كنت أشرف مع زميل لي علي قطاع المعامل التحليلية وقسّمنا العمل بيننا علي فترتين. احدنا من الثامنة صباحا حتي الثامنة مساءا, والآخر من الثامنة مساء حتي الثامنة صباحا ويتغير الوضع أسبوعيا. وكان يعمل تحت اشرافنا مجموعة من الكيميائيين بعضهم ذوي خبرة جاءوا معنا منتدبين من شركتنا وآخرين حديثي التخرج، وعدد من المحللين البعض منهم ذوي خبرة جاءوا معنا والباقين حديثي التعيين. في أحد أيام رمضان وكانت مسئؤوليتي مسائية. دخلت فجأة إلي حجرة جانبية خاصة بأحد الأجهزة التحليلية (كروماتوجراف) فوجدت أحد المحللين مختبئا خلف الجهاز يأكل سندوتشا، وحين رآني اضطرب ورجاني ألا أخبر الزملاء بما رأيت، وتكرر الأمر مع فردين آخرين، وقبل موعد الإفطار تحلق الجميع حول مائدة الطعام انتظارا لمدفع الإفطار وكنت أنظر لكل منهم وأنا أبتسم.
وفي الأيام الأخيرة لشهر رمضان وزعت الشركة علي العاملين هدية العيد وهي عبارة عن شيكارة بها: 2 كجم لحم بقري، 5 كحم دقيق، 3 كجم سكر، 5 كجم أرز، 2 كجم مكرونة و 200 جم شاي. كنت أسكن في شارع مدكور المتفرع من شارع الهرم. وعند عودتي للمسكن فوجئنا بتظاهرة كبيرة لطلبة جامعة القاهرة مطالبين بالحرب وانهاء عار النكسة والمظاهرة تملأ ميدان الجيزة فتوقفت السيارة ولم يستطع السائق الدخول لشارع الهرم فاضطررت للنزول بميدان الجيزة مع ما أحمل وجلست علي إحدي المقاهي ساعات طويلة حتي أنني فكرت من التعب أن أترك شيكارتي الثقيلة وأعود لمنزلي سيرا علي الأقدام. وحين انتهت التظاهرات أخذت تاكسي للمنزل وأنا ألعن التعب والهدايا والتظاهرات.
وفي شهر رمضان عام 2010م في سابقة تعد هي الأولى من نوعها شنّت وزارة الداخلية المصرية حملة أمنية تستهدف توقيف
المجاهرين بالافطار في نهار رمضان. في محافظة أسوان ألقت الشرطة المصرية القبض على 150 مصرياً وأودعتهم السجن وحررت لهم محاضر جنحة الجهر بالافطار في نهار رمضان. وفي مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر ألقت الشرطة المصرية القبض على العديد من المصريين خلال إفطارهم في نهار رمضان، وكشفت المعلومات أن محافظ البحر الأحمر أصدر قراراً بإغلاق المقاهي والمطاعم في نهار رمضان علماً بأن هذه المحافظة من المحافظات السياحية. كما ألقت مباحث طلخا بمحافظة الدقهلية القبض على سبعة شباب يجاهرون بالافطار في نهار رمضان شوهدوا يدخنون السجائر في الطريق العام، وحرّر لهم رئيس مباحث طلخا محضراً بالواقعة وتم عرضهم على النيابة التي أمرت بالافراج عنهم بكفالة 500 جنيها.
بالرغم من سقوط الإخوان بثورة 30 يونيو2013م لكن يبدو أنه قد تشكل تنظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مصرنا وأول فروعه كانت مباحث الداخلية برئاسة رئيس المباحث إبراهيم النجار ومعاون المباحث لقسم الدخيلة (اسكندرية) محمد البنهاوي، وكانت أولى عمليات التنظيم تحطيم ثلاث مقاهي بمنطقة الدخيلة أمام المحكمة، مملوكة للمواطنين "محمد أحمد عبد السلام"، و"صدّيق يس"، و"إميل صادق" الذين فوجئوا في الثانية والنصف ظهرًا يوم الإثنين 7 يوليو 2014. بقيام المذكوران على رأس قوة أمنية قاموا بتكسير وتحطيم المقاهي، بحجة فتحها في نهار رمضان. والسؤال الملح بدون إجابة كيف نأمل جميعنا بأن يسود القانون ويطبق على الجميع ويحطمه هؤلاء ؟.
صدور فتوي من دار الإفتاء المصرية عام 2016م بأن "المجاهرة بالإفطر في نهار رمضان مجاهرة بالمعصية، وهي حرام فضلًا عن أنها خروج على الذوق العام في بلاد المسلمين، وانتهاك صريح لحرمة المجتمع وحقه في احترام مقدساته، ولا يدخل ضمن الحرية الشخصية بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على المقدسات". أثارت الفتوى غضب كثير من المصريين، اعتبرها البعض انتهاكًاواضحا للحريات الشخصية، بينما اعتبرها آخرون تحريضًا واضحًا على العنف ضد المفطرين ورجوعا للقرون الوسطى.
يبدو أن هذه الفتوي جرأت ذلك الفتي المخنث الذي يتباهي بعضلاته مرتديا بلوزات حريمي بألوان صارخة ويلقب بالشيج مجانص أن يركب الموجة ويدعو لتكوين فريق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعقاب المجاهرين بإفطار رمضان هذا العام (2020م) متحديا سلطة الدولة وكارثة الكورونا، وعندما ووجه بحملة اعتراض علي وسائل الميديا تراجع ومحي ما كتبه علي صفحته وظهر في فيديو مدعيا أن الناس قد فهموا ما كتبه بطريقة خاطئة.
كنت أظن وبعض الظن إثم أن شهر رمضام من الأشهر الحُرُم التي يحرم الدين الإسلامي فيها سفك الدماء، ولكن يبدو أن ظني كان كل الإثم وليث بعضه، ففي مساء الخميس التاسع من رمضان هذا العام 1441هـ الموافق 30 أبريل 2020م حدث انفجار عبوة ناسفة بأحد المركبات المدرعة جنوب مدينة بئر العبد بسيناء قبيل الإفطار، مما أسفر عن استشهاد عشرة عسكريين بواسل بينهم ضابط وصف ضابط وإصابة ثلاثة آخرين، زرعها شرزمة ممن يدعون الإسلام وهم لا دين لهم بل أشد كفرا من الكفار، هم عابدون للشيطان الذي يسيرهم وللأسف شيخ الأزهر لا يريد أن يكفرهم وبكل صلافة يعتبرهم مجرمون، حيث جاء في نعيه (أن هذه الأفعال الإجرامية تدل على خسة مرتكبيها وتجردهم من أدنى معاني الإنسانية، وعدم مراعاتهم لحرمة الدماء ولا حرمة هذا الشهر الفضيل). وفي اليوم التالي نجحت أجهزة الأمن الوطني من القصاص للشهداء. أعلنت وزارة الداخلية عن توافر معلومات لقطاع الأمن الوطني حول اتخاذ مجموعة من العناصر الإرهابية أحد المنازل بمحيط مدينة بئر العبد وكرا ومرتكزا لتنفيذ عملياتهم العدائية. وعلى الفور تم إستهداف منطقة اختبائهم وتبادل إطلاق النيران مع تلك العناصر مما أسفر عن مصرع "18" عنصر وعثر بحوزتهم على (13 سلاح آلي، 3عبوة معدة للتفجير، 2 حزام ناسف). تم اتخاذ الإجراءات القانونية وتوالی نيابة أمن الدولة العليا التحقيق.
يشاع أن في شهر رمضان يحبس الجن والشياطين، ولكن يبدو أن الجن المصري جن متمرد مثله مثل الإنسان المصري تماما. فقد ظهر نشاط مفاجئ للجن فى شقة بالدور الأول بمنطقة منية السيرج بالساحل محافظة القاهرة يسكنها رجل مسن " صلاح عبد العزيز حسان 70 سنة" ومعه إبنه المتزوج وأطفاله الأربعة. تعيش هذه الأشرة لحظات الرعب منذ نهاية شهر فبراير الماضي، بعد أن بدأت النيران تشتعل فجأة في محتوبات الشقة دون سبب وبشكل غامض، مما جعلهم يفكرون في كل الأسباب بما فيها الجن. الحرائق دفعت الأسرة للتناوب على حراسة الشقة على مدار 24 ساعة خوفا من اشتعال الشقة بشكل كامل وهم نيام، بينما يضعون "جردل مياه" في كل ركن من الشقة للسيطرة على الحرائق المفاجئة والمتجددة بشكل غامض. أتوا بأحد المشايخ المتخصصين في طرد الجن، الذي قام بتلاوة الفرآن الكريم ونشر البخور، لكن بعد يومين عادت ألاعيب الجن أقوى مما كانت. والفيديو المرفق يوثق في الرابع من رمضان كيف اشتعلت النيران فجأة حيث انبعثت رائحة دخان كان مصدره قطعة ملابس أعلي الغسالة تم إطفاؤها بالماء، بعدها تجددت الحرائق في غرفة النوم والتهمت النيران مخدة علي السرير وسارعت الأسرة بإطفائها.
كنت في زيارة إبني بمدينة الغردقة، وحيث أنني أعشق الأسماك وجواهر البحر طلبت من إبني أن نذهب لمطعم أسماك الميناء حيث توجد أشهي أنواع الأسماك. وحين دلفنا للمطعم استقبلنا النادل بالترحاب، سألته إن كان يضيره أن نتناول الغذاء لديهم خاصة نحن في رمضان أجابني مرحبا: مطعمنا مطعم سياحي يرحب بزبائنه في أي وقت وتفضلوا بالهناء. وكان بالمطعم العديد من الزبائن منهم المصريين ومنهم السواح الزائرين. جلسنا نحتسي البيرة المثلجة ونلتقم السلطات حتي تُعد لنا الأسماك، وفجأة إنقض علينا بعض الضباط ومجموعة من الجنود المدججين بالأسلحة وانهالوا ضربا وصفعا علي بعض الزباين منددين بمخالفتهم التعليمات بعدم الجهر بالإفطار في رمضان. وحين اقترب أحد الضباط من طاولتنا صحت فيه قائلا بالإنجليزية: توقف عندك ولا تقترب، أنا لست مصريا أنا سائح كندي ويمكنني التسبب في وقفك عن العمل ولوحت له بباسبوري الكندي فتوقف دون أن ينبث ببنت شفة. واستيقظت من نومي أتصبب عرقا من شدة الانفعال وأنا ألعن اليوم الذي جعلني أتنكر لجنسيتي المصرية التي أعشقها حتي أتقي سفالة السفهاء.