عالم الكراهية والمخاطر والعنف الكوني
الحالة الدينية المصرية ليست علي ما يرام أبدا! إنها تبدو محتقنة ومتوترة وصراعية وتنطوي علي مكبوتات من الكراهية شبه جماعية ونظرات عدائية وصور سلبية من بعض المصريين إزاء بعضهم بعضا علي أساس الانتماء الديني الإسلامي والمسيحي. يتزايد العنف المادي واللفظي والرمزي علي سند ديني بوتائر تؤشر إلي خطورة داهمة لو استمرت وقائع التوتر دونما تصدي لأسبابها وجذورها وفاعليها بحسم وإرادة سياسية لا تلين. إن استمرارية الاحتقان الديني قد يؤدي إلي نقلة نوعية نحو بعض أشكال الطائفية علي النمط اللبناني الوبيل.
نحن إزاء مشاكل إسلامية مسيحية متفاقمة وتتمثل في تحول بعض وقائع وأزمات وشجارات الحياة اليومية العادية التي تتم في المجال العام بين المواطنين العاديين من نطاقاتها المحدودة إلي تعبئة وحشد للمناصرين علي أساس المعيار الديني وسرعان ما تولد أشكال من الضرب والجرح والقتل وإشعال الحرائق في بعض البيوت المسيحية أو أتلاف ممتلكات خاصة بهم عموما والاستثناء هو القتل وانتهاك حرمة الملكية الخاصة لمواطنين مسلمي الديانة. من ناحية أخري لا يقتصر نطاق العنف الطائفي علي نطاقه المحلي الضيق في قرية أو شارع, أو بعض أحياء المدن, وإنما يمتد إلي نطاق أوسع وتغدو آية واقعة بمثابة أداة لتفجير كل المكبوتات الدينية المتطرفة من الأطراف المتنازعة إزاء بعضها بعضا!
إن نظرة علي الأسباب المباشرة للتوتر والعنف الديني الإسلامي المسيحي تشير إلي أنه لم يعد قصرا علي ممارسات بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية أو بعض الغلاة والمتزمتين وإنما الخطورة تتمثل في أنه أصبح يشمل غالب الشرائح الاجتماعية من الفئات الوسطي علي اختلافها إلي الفلاحين وغيرهم من بسطاء الناس في الأرياف وبعض عمال المدن والبروليتاريا الرثة.
إن نظرة علي أسباب العنف الديني تشير إلي أنها تكاد تدور حول عديد الأسباب والمثيرات ومنها: التحول الديني من الإسلام إلي المسيحية والعكس أو الزواج بين مختلطي الديانة والمذهب, وتحديدا بين بعض المسلمين والمسيحيات أو ترميم وبناء الكنائس وإقامة الصلوات في أماكن دونما ترخيص وذلك نظرا للقيود المفروضة علي حرية بناء دور العبادة المسيحية! علي خلاف القواعد الدستورية حول الحرية الدينية والمواطنة. النزاع علي ملكية وحيازة بعض الأراضي ولاسيما أراضي الدولة مشكلة أراضي دير أبو فانا علي سبيل المثال- شجارات عادية حول أولوية السير بين بعض قادة السيارات الخاصة سرعان ما تتحول إلي مشكلة' طائفية' بهدف الهروب من تطبيق قانون الدولة علي أطرافها ومساءلتهم ومحاكمتهم علي انتهاك أحكام القانون.
والسؤال الذي نطرحه هنا ما هي الأسباب والعوامل المعاصرة التي طرأت كي يتحول اليومي والعادي المحتقن إلي عنف معلن وشظاياه تتناثر وتمس التعايش التاريخي المسيحي الإسلامي والسلام الديني/ الاجتماعي بين أبناء أمة كانت موحدة لعقود قليلة مضت حول تقاليد الدولة الحديثة
ثمة أسباب جديدة بعضها يرجع إلي تحولات في بنية النظام الدولي المعولم ومجتمعاته وبعضها إقليمي وداخلي. ونرصد بعضهما تمثيلا لا حصرا فيما يلي:
أولا: عالم المخاطر والعنف الكوني
يعيش عالمنا في ظل انفجار المخاطر والتعايش معها من بروز الجماعات الإرهابية والدينية علي اختلافها, وازدياد حضور الأديان في الصراعات الدولية المعولمة وتداخل هويات الجماعات علي أساس الثقافة والانتماء الديني الإسلامي/ والمسيحي/ واليهودي وغيرها من الأديان الأخري.
ثمة ازدياد لظاهرة المخاطر البيئية والحرارية وانتشار الأمراض الوبائية من إنفلونزا الطيور والخنازير ونقص المناعة والأمراض الفيروسية وغيرها عديدة بكل انعكاسات ذلك السلبية علي الأمن الإنساني.
الأزمة المالية العالمية كرست حالة من الخوف الكوني ولاسيما في ظل تعقد المشكلات والظواهر الطبيعية والإنسانية. التطور المذهل في التقنيات العلمية والتطبيقية وانتشار مشاكل الفقر وازدياد حدته والأزمات الغذائية... إلخ. حالة الخوف الكوني بين البشر علي اختلافهم أدت إلي تداخل بين الانتماءات الدينية المتصارعة وبين الآليات النفسية الدفاعية علي المستويين الشخصي والجماعي حيث يلجأ الأشخاص والجماعات إلي الأقنعة والانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية لمواجهة الخوف الكوني ولاسيما في مصر والمجتمعات العربية الإسلامية بكل انعكاسات ذلك علي التكامل الداخلي. أدت الحروب علي الإرهاب والقاعدة ونظائرها وأشباهها إلي دفع بعض القطاعات التقليدية في مصر والدائرتين العربية والإسلامية إلي ضرورة مواجهة الحظر علي الهوية من خلال الاستخدام السياسي للإسلام أو المسيحية.
أدي التوتر والحرب علي الإرهاب إلي توظيف القوي الإسلامية والقومية للسياسات الأمريكية والبريطانية والغربية والإسرائيلية الرعناء في السياسات الداخلية. استخدام الأسلحة الرمزية للإيديولوجيات والخطابات الدينية في الصراع الدولي أدي إلي تفجير موجات من الكراهية والصور النمطية بين الأديان والمذاهب والأعراق إزاء بعضها بعضا ولاسيما بين الإسلام والمسيحية. أدت ثقافة الكراهية الدينية إلي استخدام بعض النشطاء والفاعلين السياسيين من الجماعات الإسلامية السياسية والمؤسسات الدينية وبعض القوي السلفية الجهادية وغيرها إلي اختزال ظواهر الإرهاب الكوني والإسلاموفوبيا في صراع بين الأديان وتحديدا إلي صراع إسلامي مسيحي يبدأ من الغرب( المسيحي) هكذا في اختزال وتبسيط مريب واعتبار أخوة الوطن والأمة داخل مصر جزءا من الصراع مع المسيحية والغرب! زادت السياسة الإسرائيلية الوحشية إزاء الفلسطينيين وحماس والجهاد الإسلامي إلي مزيد من التعبئة والشحن الديني لاسيما أن المنطقة شهدت حماقات أمريكية في العراق وتواطؤات وتغطية علي جرائم إسرائيل ضد القانون الدولي الإنساني.
ثانيا: أدت التحولات إلي الشرط والمجتمعات ما بعد الحديثة, وانهيار عالم الإيديولوجيات والأنساق والسرديات الكبري إلي بروز ظواهر التشظي وتصدع وتفكك دول عظمي كالاتحاد السوفيتي الأسبق ودول منطقة البلقان إلي دول علي أسس قومية وعرقية ودينية ومذهبية... إلخ.
لعبت الانتماءات الأولية والدينية تحديدا دورا بارزا في عمليات تأسيس هوية الجماعات والدول الجديدة الناشطة عقب تفكك الإمبراطورية السوفيتية السابقة, والكتلة الشيوعية التابعة لها. إنها بيئة توتر وخوف وعنف وصراعات وانعكست وأثرت علي العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر والمنطقة العربية.
ثالثا: بروز وتنامي أدوار الفاعلين الدينيين المؤسسات والبابوات وكبار الشيوخ والدعاة والوعاظ واللاهوتيين والمنظمات الدينية غير الحكومية بوصفهم فاعلين كونيين مؤثرين في الحياة الدولية ومعادلاتها. تزايدت المنافسات الإسلامية المسيحية ـ عقب عمليات11 سبتمبر الإرهابية وهو أمر انعكس سلبا علي أسس التعايش الإسلامي والمسيحي في مصر والمنطقة العربية.
رابعا: تنامي الدور السياسي والضاغط لبعض جماعات أقباط المهجر في رصد انتهاكات الحرية الدينية والتمييز الديني والسلوكي والرمزي الماس بحقوق الأقباط ومبدأ المواطنة.
خامسا: استخدام أقباط المهجر شبكات الدفاع عن حقوق الأقليات الدينية علي المستوي الكوني في دعم ومساندة الجمعيات القبطية المهجرية في طرحها لمشكلات الأقباط أمام الإدارات السياسية الغربية والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والأقليات.
سادسا: ظهور الدور المؤثر سياسيا للتقارير الدولية الغربية حول حقوق الإنسان عامة والحريات الدينية بخاصة في التأثير علي الصورة والمكانة الدولية للحكومات التي تنتهك فيها حقوق الأقليات الدينية ومنها مصر. إن التقرير الأمريكي عن الحرية الدينية والمنظمات غير الحكومية الدفاعية كفريدم هاوس- يشكلون إحدي أبرز أدوات الضغط السياسي والحقوقي علي الحكومات ومنها المصرية خاصة أنها تنطوي علي آليات عملية وبعض العقوبات المؤثرة.
أثرت التقارير سلبا علي الحالة الطائفية واحتقاناتها المحملة بالعنف والكراهية ونمو شعور شبه جماعي وغامض وموهوم لدي بعض القطاعات والفاعلين في مصر بأن ثمة مؤامرة علي الإسلام تدور علي أساس ديني, ويربط بعضهم بين المتغيرات الكونية الجديدة وبين أقباط المهجر, وبين كراهية الإسلام والمسلمين إلي آخر الهواجس والأوهام والكوابيس الدينية الشائعة والتي يعاد إنتاج شعاراتها في بلادنا وتساعد علي إنتاج المزيد من التوتر الإسلامي المسيحي وتحطيم بقايا أسس التكامل الوطني.
نقلا عن الاهرام |