تحل اليوم الذكري الخامسة والعشرون لرحيل الوالد الحبيب أنطون سيدهم الأب الروحي لأسرة وطني ومؤسس رسالتها وباعث مسيرتها في ساحة الصحافة المصرية… رحل عن عالمنا في 1995/5/3 عن عمر ثمانين عاما بعد حياة حافلة غنية بالعمل والعطاء والإنجاز علي المستوي الشخصي والأسري والمهني والوطني والروحي… ترك بصمة عزيزة لدي كل من عرفوه وتعاملوا معه ليس لأنه كان معلما أو واعظا أو مربيا لكن لمجرد كونه محبا مخلصا متفانيا… لمجرد كونه هو هو مرسلا رسالة بليغة لمن حوله تحملها سلوكياته وعاكسا نموذجا يحتذي لكل من يرقبه دون أن يطلب من أحد اتباعه..
تعلمنا منه أن حبه للجميع غير مشروط وليس فيه فرز أو تمييز… يخلو من أية كراهية أو ضغينة, حتي أنه عندما كانت تثور ثائرته ويعلو صوته غضبا إزاء أي تقصير في العمل كان ذلك للصرامة والجدية في إصلاح المعوج ولم يكن يترك أية مشاعر سلبية تؤثر علي محبته واحترامه للجميع… تعلمنا منه أنه مهما احتدمت المشاكل أو الخلافات في محيط العمل فبنهاية يوم العمل ولدي عودتنا لمنازلنا نترك وراء ظهورنا كل ما يفسد العلاقات المهنية والإنسانية لنعود في اليوم التالي خالين من أي غضب أو مرارة أو تراكمات.
تعلمنا منه حب الوطن وكيف كانت غيرته علي وطنه الشرارة الأولي التي دفعته لتأسيس جريدة وطني… كان يقول دوما: كل مواطن مصري يحب بلاده يجب أن يعايش واقعها غير مكتف بأن يعمل بجد وتفان من أجل كسب رزقه وتكوين أسرته, بل يتجاوز ذلك إلي رصد إيجابيات وسلبيات الحياة فيها ويكون له رأي في كيفية المشاركة في تغييرها إلي الأفضل وتسليمها إلي جيل أبنائه في وضع أكثر رقيا وتقدما وصلاحا مما تسلمه من آبائه… وفي هذا الإطار يجد المواطن نفسه مدفوعا لأن يعبر عن رأيه من خلال القنوات المشروعة وأن يشارك أقرانه من خلال المنابر المتاحة لإحداث التغيير المأمول… وكانت هذه الغيرة وذلك الحب هما الدافع الذي يظل يعتمل في نفسه حتي سعي ونجح في تأسيس جريدة وطني وترسيخ دعائم رسالتها الوطنية ومسيرتها في عالم الصحافة التي لم تحد عنها منذ أول ظهورها في 1958/12/21 إلي يومنا هذا لتخطو في عامها الثاني والستين وتقترب من تصدر ركب الصحافة المصرية الخاصة في استمرار صدورها… واستمرار تطورها لتواكب معايير التقدم والحداثة, فبعد أن كانت تصدر باللغة العربية وحدها باتت تصدر بثلاث لغات -العربية والإنجليزية والفرنسية- وبعد أن كانت صحيفة أسبوعية ورقية أصبح لديها موقعها الإلكتروني الذي يزهو بالتزامن مع الإصدار الورقي الأسبوعي بتولي بث خدمة إعلامية مستمرة تناهز صحيفتين أو أكثر يوميا.
تعلمنا من أنطون سيدهم كيف لا ينفصل ولا ينفصم حب الوطن عن حب الكنيسة وأنه مهما اشتدت في بعض الأوقات الضربات والأوجاع علي بعض الأقباط أو الكنائس بسبب ضعاف النفوس أو المتعصبين أو المتشددين فإن الدرع الواقي لمجابهة ذلك هو الحب والتلاحم مع شركاء الوطن… ولا غرابة أمام ذلك الإيمان الراسخ أن يتصدر شعار وطني طيلة عمرها البيت الذي نظمه شاعر مصر الخالد أحمد شوقي: وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي… ومع توالي السنين وجريان الأحداث تقف وطني فخورة رافعة الرأس بمقولة قداسة البابا شنودة الثالث (المتنيح): مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا… وتمضي السنون وتتداعي الأحداث حتي تزداد وطني فخرا وزهوا أمام حكمة ومحبة ووطنية قداسة البابا تواضروس الثاني الذي جسد دور صمام الأمان في واحد من أعتي المواقف الأليمة التي ألمت بالكنيسة حين قال: وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن.
تحية لروح أنطون سيدهم في مناسبة اليوبيل الفضي لرحيله… وتقف أسرة وطني تحمل كل معاني الاعتزاز والانتماء لما رسخه من دعائم العمل الصحفي والوطني وما تركه لنا من نموذج عظيم للمصري الملتصق بوطنه المحب لكنيسته… ولعل أكثر ما نحرص عليه ليعكس ذلك ما بدأناه منذ بداية العام الماضي من إعادة نشر أحد المقالات التي سطرها فكره وقلمه في مسيرة امتدت زهاء عشرين عاما (1975-1995) وهي المقالات التي جمعناها عام 1996 بمناسبة الذكري الأولي لرحيله في الكتاب الذي حمل عنوان أنطون سيدهم.. ومشوار وطني والذي وقفت كثيرا متأملا عنوانه ومتسائلا بين نفسي: هل مشوار وطني يرمز إلي أنطون سيدهم أم أنه يرمز إلي جريدة وطني؟… وفي كل مرة كنت أفشل في التفرقة بين الاثنين… وهنا تكمن عظمة أنطون سيدهم ورفعة وطني.