د.عبدالخالق حسين
يقول الفيلسوف الأمريكي من أصل ألماني، إريش فروم (Erich Fromm): "إن الإرهابي لا يعتمد على الأضرار المباشرة من أفعاله فحسب، بل والأهم، يعتمد على نتائج ردود الأفعال". فردود الأفعال التي تتخذها الحكومات والناس هي الأخطر، إذ تشبه سلسلة التفاعلات النووية (Chain reactions)، وهذا القول ينطبق على وباء فيروس كورونا أيضاً.
نعم، أغلب الإجراءات الوقائية والاحترازية التي فرضتها الحكومات، بعد استشارة العلماء والأطباء، كانت ضرورية لتخفيف الأضرار من هذا الوباء الخطير الذي كشف عجز البشرية رغم تقدمها الحضاري في جميع المجالات. ولكن المبالغة في تطبيق هذه الإجراءات أدت إلى نتائج معكوسة. ومن هذه الإجراءات إيقاف العمل في معظم المؤسسات الاقتصادية، الإنتاجية والخدمية، وبمختلف أنواعها، وتوقف وسائل النقل، البرية والبحرية والجوية، وذلك للحد من نقل فيروس كورونا من مكان إلى آخر.
والأخطر، أن معظم المستشفيات والمراكز الصحية توقفت عن معالجة الحالات غير المسعجلة، بما فيها الحالات السرطانية، والتي تحتاج إلى عمليات جراحية، بل وحتى العيادات الخارجية توقفت عن استقبال المرضى، و ألغت المواعيد أو أجلتها، وذلك لفسح المجال أمام شغيلة الصحة لمعالجة المصابين بفيروس كورونا.
ولكي لا يساء فهم القصد، أقول أن الخطر ليس في هذه الإجراءات، بل في المبالغة في تطبيقها، وخاصة في إيقاف المؤسسات الخدمية مثل النقل، والتعليم، والتشدد في التباعد الاجتماعي...الخ. إذ تفيد الحكمة ( كل شيء زاد عن حده انقلب ضده). فمع قناعتنا بضرورة هذه الاجراءات، إلا إنه يجب تطبيقها بمرونة وعقلانية، وحسب متطلبات الظروف المحلية، و مبدأ الربح والخسارة.
فهناك أدلة تؤكد صعود أرقام الوفيات وخاصة في دور العجزة لأسباب لا تعود إلى مرض كورونا. كذلك توقف كثيرون من المرضى عن مراجعة الأطباء، أو المؤسسات الصحية في حالة تعرضهم إلى مشاكل صحية تستوجب الاستشارات الطبية في الظروف الاعتيادية ، إما لصعوبة الاتصال بهذه الجهات، أو لخوف المرضى من عدم الاستجابة لهم، أو لرغبتهم في فسح المجال لشغيلة الخدمات الصحية للتفرغ لمعالجة مرضى الكورونا.
إذ تفيد الأنباء في بريطانيا مثلاً، أنه حتى المراجعات لقسم الطوارئ (Accident and Emergency) قد انخفضت بنسبة 50%. وحتى لو أخذنا انخفاض حوادث الطرق بالحسبان بسبب انخفاض استخدام السيارات وغيرها من وسائل النقل، إلا إن هناك انخفاض في المراجعة لحالات أخرى مثل الذبحة الصدرية وأمراض أخرى، إلا بعد تفاقم المرض. إذ أفادت الأخبار من بي بي سي مؤخراً، أن دخول المستشفيات بسبب الأزمات القلبية (Heart attacks) قد انخفض بنسبة 70%، وتحويل حالات الأمراض السرطانية من قبل الأطباء العموميين (GP) إلى الأخصائيين في المستشفيات قد انخفض بنسبة 75%. وهذا لا يعني أن هذه الأمراض قد توقفت بل لصعوبة المراجعات بسبب حظر التجول. إضافة إلى إلغاء العمليات الجراحية للحالات غير المستعجلة.
كذلك أفادت الشرطة البريطانية أنه منذ بدء الحظر، وفرض الإقامة الإجبارية في المنازل، تصاعدت حوادث العنف الأسري بنحو 25%. أما في العراق فقد أفادت الأنباء أنه (منذ بداية الحجر المنزلي، ازدادت نسبة العنف الأسري بنسبة 30 في المائة، وحتى 50 في المائة في بعض الأماكن، بحسب ما يؤكد لوكالة فرانس برس مدير الشرطة المجتمعية العميد غالب عطية.)(1)
أما الأضرار الاقتصادية فحدث ولا حرج، وأهم قطاع تضرر من هذه الاجراءات الوقائية، هو قطاع النفط، حيث انهارت أسعار النفط الخام إلى النصف أو أقل منه، أما في أمريكا فقط هبط سعر البرميل من النفط الخام إلى ما دون تكاليف إنتاجه، إضافة إلى معاناة شركات النقل، وبالأخص شركات الخطوط الجوية، والسياحة، والفنادق، والمطاعم وغيرها كثير. ولا شك إن الكثير من هذه المؤسسات الاقتصادية معرضة للإفلاس، وبالتالي تسريح الملايين من العاملين فيها ورميهم في أحضان البطالة، وحتى عجزها عن دفع رواتب المتقاعدين. لذلك هناك تحذيرات وتنبؤات من قبل الخبراء الاقتصاديين أن الانهيار الاقتصادي والكساد في العالم ما بعد كورونا، بسبب هذه الإجراءات، سيكون الأسوأ في التاريخ، أي أسوأ من الكساد الذي حصل في عام 1928 نتيجة للحرب العالمية الأولى.
ورغم أن الدول الكبرى مثل أمريكا وبريطانيا و الاتحاد الأوربي، واليابان وروسيا والصين الشعبية، وغيرها قد خصصت مبالغ بأرقام فلكية تقدر بترليونات الدولار، لمساعدة المتضررين من الشركات والأفراد العاملين، إلا إن هذه الاجراءات لن تحمي من الكساد، وانخفاض القوة الشرائية (Inflation) لجميع العملات بما فيها الدولار، والاسترليني، واليورو، والين الياباني، وغيرها. أما الدول الفقيرة في العالم الثالث فهي معرضة للنتائج الاقتصادية الوخيمة أكثر من غيرها أضعافاً مضاعفة. وبالتأكيد تكون أكثر الدول تضرراً هي الدول التي تعتمد في موازناتها على النفط مثل دول الأوبيك، وروسيا، والنرويج وغيرها.
ولو قارنا الدول التي لم تتشدد في العزل الاجتماعي مثل السويد وغيرها من الدول الاسكندنافية، لو جدنا عدد الإصابات والوفيات بسبب فيروس كورونا فيها أقل من تلك التي تشددت في هذه الاجراءات مثل أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وغيرها، لو أخذنا في الاعتبار نسبة الوفيات والإصابات لكل مليون نسمة من السكان(2). كذلك الصين الشعبية التي انطلق منها الوباء اكتفت بعزل مدينة ووهان فقط التي كانت مصدر الوباء، ولم تتشدد في هذه الاجراءات في بقية مناطق الدولة الواسعة، والآن عادت الحياة فيها بصورة طبيعية مع أقل الأضرار البشرية والاقتصادية، حيث حصل انخفاض في سوق الأسهم في الصين حوالي 10% فقط ، بينما انخفضت الأسهم في البلدان الغربية التي تشددت في إجراءاتها الوقائية إلى نحو 50%.(3)
كما تفيد الإحصائيات أن الوفيات بسبب كورونا في العالم أقل بكثير من الوفيات بسبب الإصابة بالانفلونزا، والتي تتكرر سنويا ودون أخذ أي إجراء وقائي كما اتخذ في حالة كورونا.(4)
لذلك أعتقد أن المبالغة والتشدد في هذه الاجراءات مثل فرض العزل، والإقامة الاجبارية لنحو ثلث البشرية في العالم، يؤدي إلى نتائج وخيمة ومعكوسة، من بينها زيادة الوفيات بسبب إهمال معالجة المصابين بالأمراض الأخرى غير الكورونا، إضافة إلى إيقاف التعليم، و شل الحياة، والدمار الاقتصادي الشامل ما بعد كورونا، وتفشي البطالة، وما يرافقها من تصاعد الجريمة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية، أي كارثة تلد كوارث أخرى أشبه بالقنابل العنقودية.