الكاتب
جديد الموقع
موكب آخر
بقلم : مدحت موريس
دقائق قليلة ويمضى الموكب....الكل يتأهب ويتهيأ لكى يخرج الموكب بصورة تليق بقيمة ومكانة حكيم الزمان. الحزن يخيم على أرجاء القاعة الفسيحة...يغطى الوجوه....يعتصر الدموع من عيون الجميع...الا وجهاً واحداً لم تغمره الأحزان...وعينان لم تغلبهما الدموع، انه وجه الحكيم فى نعشه المكشوف..كان هادئاً مطمئناً وهو يطبق جفنيه فى سلام، يغمض عينيه ولا يرى ظلاماً ونحن من حوله تزداد أحزاننا لأنه لم يعد يرانا غير مدركين أنه صار يرانا بعيون أكثر شفافية. ثوان أخرى تمضى والحزن ترتفع حرارته والدموع تزداد سخونتها وتحفر لها طريقاً على كل الوجوه.. يرتفع غطاء الصندوق ثم تحطه الأيدى ليتطابق باحكام مع حواف الصندوق....وترتفع الأصوات بالبكاء...بالصراخ والنحيب...
فلم نعد نراه. ثم يمضى الموكب الحزين فى مسارات مختلفة ومتعددة وفى كل الاتجاهات تنسكب نفس المشاعر الحزينة بنفس الدرجة ونفس القوة...ولم يكن هذا بغريب فبقدر قوة الحب الذى أحبه الناس للحكيم كانت قوة الحزن عظيمة وعميقة لفراقه....ومن يزرع حباً لن يحصد سواه. ويصل الموكب للنقطة الأخيرة التى أحبها الحكيم وتعايش معها وفيها سنوات اختبره الله فيها بتجارب هى الأصعب فى تاريخ حكماء الأرض....ليرقد جسده هناك ويصنع تاريخاً جديداً سيشهد له الكثيرون. ثم غادر الجميع المكان ولم تغادرهم الأحزان عاد كل الى مكانه يجتر أحزانه وما من مُعزى...فمن يعزى ومن يواسى وكل منا قد صار يتيماً. فى صباح اليوم التالى دعانى أحد الأصدقاء لمشاهدة تسجيلاً كاملاً لمراسم وداع الحكيم وقد أخبرنى بأنه قام بدعوة العديد من الأصدقاء...لم أعطه تأكيداً بحضورى حيث أننى كنت مازلت تحت تأثير المعايشة الفعلية للموكب الحزين. فى الموعد الذى حدده صديقى وجدت نفسى غير قادر على مقاومة رغبتى الشديدة فى مشاهدة الموكب ورغم خشيتى من ثقل المشاهدة واجترار الأحزان مرة أخرى الا أننى استسلمت لتلك الرغبة الشديدة التى اجتاحت نفسى وقلت لعلنى أجد فى المشاهدة عزاءاً لم أجده فى المشاركة. بعد دقائق كنت أطرق باب صديقى....وما أن دخلت حتى وجدت وجوهاً كثيرة أعرف بعضها وأرى البعض الآخر لأول مرة....
كنت آخر من حضر ممن دعاهم صديقى الذى استئذنا فى الا يبدأ تشغيل التسجيل حتى يُحضر والده المسن من غرفته، استغربت الأمر لعلمى أن والد صديقى قد فقد بصره منذ زمن لكنى - بالطبع - لم أعلق. عاد صديقى مرة أخرى بوالده الكفيف الذى كان يتأبط ذراع ابنه بيد بينما بيده الأخري تمسك بعصا يتحسس بها طريقه. حيانا الرجل وأفسحنا له مكاناً ليشاركنا المشاهدة ونحن لا ندرى كيف يمكنه ذلك. بدأنا المشاهدة وتحركت مشاعرنا مرة أخرى..وترقرقت الدموع فى عيون البعض، أشحت بوجهى بعيداً عن التليفزيون فوقعت عيناى على الرجل الكفبف - والد صديقى - فوجدته -كعادة المكفوفين- قد أمال رأسه للجانب الأيمن رافعاً أذنه اليسرى لتواجه سماعة التليفزيون...
لم أحاول أن أركز فى النظر اليه لكنى عاودت النظر اليه أنا وغيرى من الحاضرين ونحن نراه يبتسم ويدندن بالحان وتسابيح بدأها بصوت خفيض الا أن صوته بدأ يرتفع شيئاً فشىء حتى غطى على الالحان الصادرة من التسجيل ...نظر اليه ابنه فى قلق وحاول مقاطعته الا أن الأب أشار له أن يصمت فصمت الابن على مضض والأب مازال صوته يعلو بالحان مبتهجة والسعادة تغمر وجهه....أوقف الابن التسجيل والتفتنا - جميعنا - للأب الذى وقف وصوته يعلو بالتسبيح والتهليل ....وقفنا دون أن نشعر لنشاركه وقفته وتسبيحه وتهليله وقد أدركنا أنه يشاهد موكباً آخر للحكيم هو موكب استقباله فى عرس السماء
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :