كتب – محرر الاقباط متحدون ر.ص
تحتفل الكنيسة الكاثوليكية بمصر اليوم، بقيادة البطريرك الأنبا إبراهيم اسحق، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، ورئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك بمصر، بعيد تذكار القديس مرتينس بابا روما الشهيد .
ولد مرتينس في تودي من ولاية سبوليتا في إيطاليا. وكان أبوه فبريسيوس من الإشراف الرومانيين ومن أضخمهم ثروةً. لكن الفضيلة كانت زينة ذلك البيت الكبير، فشبّ مرتينس على مخافة الله. ودرس العلوم المدنية أيضاً، فنال منها حظّاً وافراً. وعافت نفسه ضوضاء العالم وأمجاده الكاذبة، فرغب في حياة البتولية والغيرة الرسولية، فدخل في السلك الإكليريكي.
إلاّ أنّ فضيلته وسِعَةَ معارفِه جعلتاه يرتقي بسرعةٍ في درجات الكهنوت، الى أن صار حبراً أعظم ورئيساً للكنيسة كلّها جمعاء. فاستقبل أهل رومة تسلّمه عصا الرعاية العليا بمظاهر الفرح والابتهاج. وتلألأت فضيلته السامية منذ الأيام الأولى لحبريته. فكان ساهراً على رعيّته، يغذّيها بتعاليمه، عطوفاً على الفقراء، مضيفاً للغرباء، وكان رسول السلام بين الأسر، يعمل على مصالحة الأخصام وائتلاف القلوب.
إلاّ أنّه لم ينعم بالطمأنينة والسلام في حياته. لأنّ الدنيا على إيامه كانت بحراً مزبداً مضطرب الأمواج، وكانت العواصف تجتاحها من كلّ جهة. وفوق ذلك كلّه رأى بمرارةٍ تكاثر البدع في كنيسة الله.
وحمل الملك قنسطنديوس الثاني علم تلك الهرطقة وقام يبشّر بها. وبدل أن يجرّد السيف ويصد هجمات البرابرة والعرب، أقام نفسه معلّماً في كنيسة الله، وراح يهذي بما لا يعرف. ولمّا رأى أن "البيان اللاهوتي" الذي وضعه جدّه هرقل قد رفضته الكنيسة بأجمعها، وضع هو قانوناً جديداً دعاه: "الأنموذج" وأقرّه له بولس البطريرك القسطنيطيني، وفرضه فرضاً على الأساقفة والمؤمنين. فاشتعلت الحرب من جديد بينه وبين الكنيسة المقدّسة.
ولمّا ارتقى القدّيس مرتينس إلى السدّة البطرسية، أرسل إليه الملك ذلك "الأنموذج" ليقرّه بسلطانه الأعلى. فلمّا أطلع الحبر الأعظم عليه وجده منافياً لتعليم الآباء، فرفض. فغضب الملك غضباً شديداً، وأرسل على روما جيشاً كبيراً، وأوصى القائد أولمبيوس أن يحمل الحبر الأعظم بالقوّة على قبول بيانه. فما كان من البابا مرتينس إلاّ أنّه جمع في اللاتران مجمعاً حضره مئة أسقف، وبحث معهم في ذلك البيان الخبيث، وبيّن لهم ما فيه من الأضاليل، فرفضوه كلّهم. فحرم الحبر الأعظم بسلطانه السامي بيان الملك ، ورشق بالحرم أيضاً كل من يجرؤ على أن يقول ذلك القول ويقبل بذلك التعليم. ما كان الحبر الأعظم يوماً ليهاب سخط الملوك.
فاستشاط أولمبيوس غضباً، ولا سيّما وكان يريد أن ينال بنجاح مهمّته حظوةً لدى القيصر. فصمّم على قتل الحبر القدّيس الباسل. فتقرّب إليه، وتظاهر بالصداقة لديه، وأوهمه أنّه يريد أن يقبّل القربان الأقدس من يديه. لكنّه أوصى حامل سلاحه ان يفتك بذلك الحبر الأعظم عندما يتقدّم حاملاً بيده القربان ليناوله. وانقضّ الجندي على الحبر الأعظم ليطعنه بسيفه، فضربه الله بالعمى، ووقع على الأرض مغشياً عليه. فارتاع القائد الأثيم، ورأى في ذلك القصاص الرادع يد القدرة الإلهية، فسجد أمام الحبر مستسمحاً مستغفراً. فتناسى البابا خيانته وغفر له.
وصار أولمبيوس صديقاً حميماً للحبر الأعظم، ونبذ الهرطقة واعتصم بالإيمان الصحيح. ثم أخذ جيشه وذهب إلى محاربة البربر في جزيرة صقلّية، ومات هناك مصالحاً مع الله.
فلمّا علم الملك بما صار، أرسل والياً جديداً إلى إيطاليا، وهو ثاوذوس كاليوباس، وأمره ان يمسك البابا مرتينس ويرسله اليه مقيّداً مغلولاً. ولما كان هذا يحسب حساباً كبيراً لسخط الشعب الروماني اذا وضع يداً أثيمة على الحبر الأعظم، إحتال عليه وأرسل الجند ليمسكوه، وهو في الكنيسة يتلو الفرض مع كهنته، ويأتوه به. فلمّا رأى البابا أن الجند تألّبوا عليه في كنيسة اللاتران يريدونه، حظر على كهنته وخدمه أن يقاوموا، واستسلم بين أيديهم وذهب معهم.
وبعد بضعة أيام أرسله الوالي سرّاً إلى القسطنطينية، لكي لا يتمكّن أحد من مرافقته وخدمته. فأُذيق على الطريق مرّ العذاب، وبقي ثلاثة أشهر تتلاعب به الأمواج على متون البحار، حتى نهكت قواه ولم يعد يقدر على الوقوف على رجليه. أمّا هو فكان ساكتاً صابراً، يصلّي ويتضرّع لأجل الكنيسة، ويقدّم آلامه فداءً عنها.
ولمّا وصلوا إلى القسطنطينية وضعوه في سجن مظلم وشدّدوا عليه. وألّف الملك محكمة لأجل محاكمة الحبر القدّيس، وأتوا به كمجرم أمام ذلك الديوان الظالم. فأمره الرئيس أن يقف ليجيب عمّا يُنسب اليه من الجرائم. ولمّا لم يكن يستطيع الوقوف مسكه الجند وأوقفوه، كما سبق ليسوع أن وقف أمام حنّان وقيافا. وكان الملك الفظيع ينظر إلى ذلك كلّه من مكان خفي. ثم أدخل شهود زور ليشهدوا عليه بأنّه أهان الذات الملكية. أما الشهود فكانوا من الجند ومن رعاع الشعب. فنظر اليهم ذلك الحبر الجليل، وتنهّد وقال بوداعة ووقار: أتأتون بهؤلاء ليشهدوا بالسوء على أسقف رومة؟ فضربه أحدهم على فمه، كما ضُرب يسوع. وطلب الرئيس من أولئك الشهود أن يحلفوا اليمين على الإنجيل، إثباتاً لشهادتهم. فاعترضه الحبر وقال: لماذا تحملهم على إهلاك نفوسهم بهذا القسم الكاذب؟ دعهم وشأنهم، وافعل ما بدا لك.
فما كان من تلك المحكمة الشرّيرة إلاّ أنها حكمت عليه بالخيانة العظمى لملكه. فجُرّد من ثيابه الكهنوتية، وشُهّر في أسواق العاصمة وشوارعها، ثمّ أُعيد الى سجنه ريثما يُرسل الى المنفى. إن جرائم كهذه تقوّض أركان الدول، وتهدم صرح المجتمع البشري.
ومرض بولس بطريرك القسطنطينية الهرطوقي وشريك الملك في تلك المخازي، فذهب الملك اليه يعوده. وقصّ عليه ما كان من أمر البابا مرتينس. فتنهّد البطريرك الجاني وقال: هذا يكون لسوءَتي وشقاء دينونتي. ولمّا سأله الملك عن معنى ذلك الكلام الغريب، أخذ البطريرك يتضرّع اليه لكي يكتفي بما صار ويترك الحبر الأعظم يعود الى كرسيه. فلم يرضَ الملك بذلك، بل أمر بنفيه في إقليم خرصونة ، شمالي البحر الأسود.
فحُمل الى منفاه. وهناك ذاق الجوع والعري والفاقة القصوى بين شعب بربري وثني، مدّة أشهر كانت كأنّها السنون الطوال.
وما لبث أن رقد بالربّ سنة 655، وانضمّ في الأعالي الى طغمة الباباوات القدّيسين الذين سبقوه الى ديار الخلود. ولم يُترك جسده في بلاد المنفى، بل أعيد الى رومة ودُفن في كنيسة القدّيس مرتينس الجبليّة. وصنع الله بواسطته عجائب كثيرة في حياته وبعد موته.
وسوف يبقى القدّيس مرتينس مثال الرعاة الصالحين، الذين لا يهابون الشدائد في سبيل قيامهم بالواجب الرعائي، ولا ينتظرون المجد من الناس، بل ذلك المجد الذي من عند الله.