كـــورونا.. والطـــاقة العـــالمية
بقلم
دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
يؤدى وباء كورونا الآن إلى تقوض أسعار النفط العالمية، ويبدو المشهد كأنما صناعة الطاقة العالمية بحاجة ماسة لتحقيق وفورات أو استقطاعات إنتاجية مؤثرة.
ويوجد إدراك جازم بأن فيروس كورونا قد حطم الطلب العالمى على الوقود البترولى السائل جراء قيود الحركة المفروضة على قطاع النقل العالمى بكل دولة، بدءاً من النقل على الطرق وانتهاءً بالنقل الجوى . وليس قطاع النقل وحسب، بل قد تهاوى الطلب على نحو شامل بسبب تعطل أغلب الأنشطة الاقتصادية جراء قيود العزل العام والتباعد الاجتماعى لنحو نصف سكان الأرض، فانخفض الطلب العالمى على الخام لنحو أكثر من 30% بالتزامن مع تحرك السعودية وروسيا لإغراق الأسواق بإمدادات إضافية بعد انهيار الاتفاق على خفض الإنتاج، مما تهاوت معه أسعار النفط إلى أكثر من 60%، وهو انخفاض غير مسبوق خلال السنوات العشر الأخيرة.
وفى الولايات المتحدة الأمريكية خَفَّض منتجو النفط الإنتاج لدعم أسعار الخام العالمية التي تراجعت تراجعاً دراماتيكياً على نحو تلقائى دون تدخل سياسى بسبب تراجع الأسعار.
والملاحظ أنه كلما تأخر الاتفاق على خفض الإنتاج كلما تهاوت الأسعار أكثر وأكثر لحين تعافى الأنشطة الاقتصادية العالمية.
وتسعى أوبك وحلفاؤها إلى تخفيض معدلات الإنتاج لتعزيز الأسعار، كما يسعى المنتجون الأمريكيون للنفط الصخرى والنفط بعامة إلى الاستيلاء على نصيب أكبر من السوق العالمية للنفط على حساب أوبك.
وحتى تظهر مؤشرات فعلية لانقشاع غُمَّة وباء كورونا ستظل أسعار النفط تحت ضغط شديد، وقد تنخفض إلى أقل من 20 دولاراً للبرميل، وذلك ما حدا بأحد كبار رجال أسواق المال إلى القول بأن "كوفيد أخذ سوق الخام رهينة".
ومن الجدير بالذكر أنه في دراما الترجحات الدائمة لأسعار النفط بالسوق العالمية تتصارع مؤثرات عدة، وتنقسم هذه المؤثرات إلى مجموعتين رئيسيتين، تدعم أولاهما هبوط الأسعار بينما تدعم ثانيتهما صعود الأسعار، ووجود المؤثرات المُخَفِّضَة دون المؤثرات الرافعة يهوى بأسعار خام برينت (الخام المعيارى للتسعير)، بينما تصعد المؤثرات الرافعة بأسعار الخام.
وتتعلق المؤثرات المُخَفِّضَة كلها بالاقتصاد الكلى، ويتصدرها الحروب التجارية الأمريكية التي تؤثر على التجارة العالمية بالسلب وترفع تكاليفها، كما تسهم في تباطؤ الاقتصاد العالمى، الذى يسهم بدوره في تخفيض معدلات نمو الطلب العالمى على النفط.
وثانى هذه المؤثرات يتعلق بانخفاض معدلات النمو الاقتصادى، فحتى من دون الحروب التجارية كان هنالك تباطؤ في نمو الاقتصاد العالمى، والذى بدوره يسهم في تخفيض الطلب العالمى على النفط، لكن بقاء أسعار النفط منخفضة يعنى استمرار معاناة اقتصادات الدول المصدرة للنفط، وانخفاض طلبها بالتالى عليه.
ويرتبط المؤثر الثالث بالتفاوت في تسعير النفط بالدولار والعملات المحلية، التي تهبط قيمتها غالباً مقابل الدولار، فإذا كان الهبوط كبيراً يعنى ذلك ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته داخل هذه الدول، ويحفز من جهة أخرى هبوط أسعاره العالمية بالدولار، بينما يساعد ارتفاع الدولار الشركات الروسية والشركات العاملة في بحر الشمال على خفض تكاليفها، وبالتالي زيادة إنتاجيتها، مما يخفض سعر النفط.
أما رابع هذه المؤثرات فيكمن في رفع الدعم وزيادة الضرائب على المنتجات البترولية، مما يعنى أن انخفاض أسعار النفط لا يؤدى إلى زياد الطلب عليه.
أما جملة المؤثرات الرافعة لأسعار النفط فتتعلق كلها بالاقتصاد الجزئى، ويتقدمها استمرار انخفاض مخزون الخام الأمريكى، وتباطؤ نمو إنتاج النفط الصخرى، وزيادة نسبة تشغيل مصافى النفط، وزيادة صادرات الولايات المتحدة الأمريكية الناتجة عن زيادة الإنتاج، مما يعنى تخفيف الضغط على الأسواق الأمريكية، وبالتالي انخفاض المخزون مما يرفع أسعار النفط.
بَيْدَ أن جائحة كورونا عززت منذ بدأت من كساد الاقتصاد العالمى، فعززت بالتالى من قوة العوامل الخافضة لأسعار سوق النفط، ويبدو في الأفق أنها ستظل أقوى من العوامل الرافعة حتى إلى ما بعد انقشاع الغُمَّة.
ويعانى قطاع الطاقة بالفعل الآن من آثار كورونا، فالانتشار الكاسح للفيروس ساهم على نحو بالغ في كبح الطلب على النفط، مما أسفر عن سقوط أسعار النفط وتداعى الإنتاج، خاصة في اشتعال حرب الأسعار بين روسيا ودول أوبك.
وكلما تحركنا قُدُمَاً يتوقع قطاع الطاقة أن يواجه تيارين رئيسيين: (1) إدارة قضايا الطوارئ الصحية التي تواجهها جميع القطاعات؛ و(2) التواؤم – بالتزامن – مع سيناريو السعر النفطي المنخفض، والطلب الأقل، والحاجة لدعم العائدات، وإدارة التزامات القروض والدَّينْ.
ومن المعروف أن الخطط النمطية لمواجهة الطوارئ تساعد على إذكاء الفاعلية التشغيلية في أعقاب أحداث الكوارث الطبيعية، والحوادث السيبرانية، والانقطاعات الحادة للقوى الكهربية، بين أحداث أخرى عديدة، لكنها لا تأخذ عموماً في حسبانها الحجر الصحى، والإغلاق الممتد للمدارس والجامعات، والقيود المضافة على السفر والتنقل التي قد تحدث في حالات الطوارئ الصحية، كما في حالة فيروس كورونا.
لقد أظهرت الجائحة عدداً من التحديات الفريدة التي تحتم المواجهة العاجلة لفيروس كورونا المنتشر على نحو كاسح، والدليل العام للمواجهة يتضمن بالضرورة قضايا: (1) إدارة الأزمة؛ و(2) سلسة الإمداد؛ و(3) الإقرار المالى؛ و(4) الضرائب التجارية؛ و(5) قوة العمل.
ولقد حذرت إدارة الأمن السيبرانى وأمن الطاقة والاستجابة للطوارئ بوزارة الطاقة الأمريكية شركاء قطاع الطاقة بضرورة البقاء يقظين للتهديدات المحتملة للأمن السيبرانى، ويتلقى شركاء قطاع الطاقة التشجيع للعمل مع مركز مشاركة وتحليل المعلومات الكهربية، وكذا مركز مشاركة وتحليل معلومات الطلب على الغاز الطبيعى، ومركز مشاركة وتحليل معلومات النفط والغاز، للبقاء على أتم اليقظة والانتباه لأية مخاطر سيبرانية، بما في ذلك الرسائل الإليكترونية لكورونا الحاملة للخطر، والتأكيد على أن آخر دليل للأمن السيبرانى قد تم توريده لمؤسساتهم.
كذلك حثت إدارة الأمن السيبرانى شركات قطاع الطاقة لتقييم الاتساع الكلى للخطر داخل سلسلة الإمداد، شاملا موردى خدمات الصناعة، وذلك لتقييم الكيفية التي قد يؤثر بها فيروس كورونا على الخدمات، ومقاربات مقاوليها لتقديم الخدمة.
وينظر إلى صناعة "داخل البحار" offshore industry حالياً بوصفها منشط ومقوِّ لوباء كورونا، وأن الأثر الأكبر للوباء يقع في البحار، أما كيف سينجو العالم من الفيروس فذلك موقوف على تطوير لقاح يحتوى على الفيروس، والتوقف عن إعادة العدوى بعد الموجة الأولى أو الثانية.
وفيما يتعلق بصناعة النفط والغاز معاً فإن انتشار فيروس كورونا قد أثار مشكلتين جوهريتين: الهبوط في قيمة النفط، وحرب الأسعار الناتجة.
ولقد تزايدت احتمالات أن يفقد حوالى 20% من العمالة "داخل البحار" وظائفهم، واستقطاعات متزايدة من فرق العمل قد تستمر حتى منتصف 2021، كذلك يتفق الخبراء والمحللون على أن الصناعة النفطية ستكون في حاجة ماسَّة إلى وفورات حرجة لتحتفظ بالإنتاج مربحاً، وتتم مبيعات خام برنت حالياً في منتصف مدى العشرينيات دولار، وعديد من المشغِّلين الآن يستهدفون ذلك كعتبة أولية لتكلفة المشروعات.
وقد انهار الحد السعرى للنفط Breakeven Price (أي سعر النفط المطلوب للمشروعات كى تحقق ربحاً) على نحو عنيف منذ اضطرابات الصناعة النفطية عام 2014، وتعوِّل الشركات العاملة في المجال كثيراً حالياً على خفض تكلفة الإنتاج لمعادلة الخفض في أسعار السوق.
ولقد أحرزت شركات عديدة استقطاعات في التكلفة سابقاً باستخدام الرقمنة digitalization، ويعتقد موردو الخدمات أن الموجة الحالية لاستقطاعات التكاليف تعنى تكنولوجيا أكثر "داخل البحار" ويبدو على نحو ظاهر بشدة الآن أن التغيير لا مناص منه، لكن السؤال يتمحور حقيقة حول معدل التغيير وتقدمه.
والواقع أننا ونحن نستيقظ على الموقف الراهن الذى وجدنا أنفسنا فيه ستبقى شركات الطاقة رانية عن قرب إلى خططها الراهنة حول الرقمنة ، وإلى الكيفية التي يتعين عليها أن تعجل فيها ببعض جهودها في هذا المضمار.
لكن المثل القائل : "مصائب قوم عند قوم فوائد" يبدو صحيحاً بالنسبة لشركات التكرير، حيث يدعم التراجع في سعر الخام هوامش الشركات التي تضررت جراء انخفاض الطلب مع تفشى فيروس كورونا.
كذلك مشترون كثيرون –خاصة في آسيا- صارت لديهم ميزة المفاضلة بين خيارات عديدة بعدما فُتِحَتْ أمامهم فرص مراجحة النفط الأوربي والأفريقى والأمريكى عقب تقلص الزيادة السعرية لخام برنت فوق دبى بحدة، وانخفاض أسعار الناقلات.
وعلى جانب آخر توقع متعاملون عديدون انخفاض الأسعار الفورية بدرجة أكبر من الأسعار الآجلة، مما يشجع على تخزين النفط لديهم.
أيضاً تحمل هذه التراجعات أخباراً سارة للمستهلكين، وفى مصر التي بلغت حد الاكتفاء الذاتي من النفط ببلوغ الإنتاج اليومى عتبة المليونين اثنين برميل نفط يومياً - وليست لها بالتالى صادرات أو واردات في هذا المضمار - تنعكس انهيارات أسعار سوق النفط العالمية انعكاساً إيجابياً على المستهلك المصرى الذى لن يعود يتحمل أية زيادة تالية في أسعار المحروقات ، نظراً لما أدت إليه الأسعار العالمية المنخفضة للنفط من زوال الشريحة الأخيرة من الدعم التي كانت تتحملها الدولة في ظل ارتباط سوق النفط الوطنية بالسوق العالمية للنفط، ويؤثر ذلك بالضرورة في تحسين اقتصاديات الإنتاج والاستهلاك في قطاعات التصنيع والنقل والسلع والخدمات.
وينسحب الخفض في الطلب على الطاقة كذلك على باقى مصادرها الأحفورية وغير الأحفورية.. فالركود الاقتصادى الراهن من جراء جائحة كورونا يخفف من الطلب على الفحم سواء لمحطات القوى الكهربية التي اضطرت إلى تخفيف أحمالها، أو للصناعة التي توقفت الكثير من صروحها الإنتاجية.
كذلك تضاءلت فرص انتشار مشروعات الطاقة المتجددة مرحلياً جراء القيود على العمالة، وتخفيض ساعات العمل، والحرص على التباعد الاجتماعى، كأساليب وقائية حتمية.. لكن هذا الخفض في استخدام مصادر الطاقة هذه رغم ظاهره الركودى يحمل في طياته مزايا عدة.. فإذا تصور أحد وقوع خسارات آنية لقطاع الطاقة جراء جائحة كورونا فإن هذه الخسارات على المدى الطويل هي في حقيقتها مكاسب جمة لقطاع الطاقة الذى تطيل الجائحة في عمر مخزوناته الأحفورية لمستقبل الأيام.