د.عبدالخالق حسين
لأول مرة في التاريخ الحديث تعيش البشرية في حالة هلع عام في جميع أنحاء المعمورة من وباء عالمي (جائحة= pandemic) لفيروس جديد من فصيلة السارس (Sars virus)، لم يعهدها من قبل. لقد كُتِبَ وقيل الكثير عن هذا الفيروس، ومخاطره ونتائجه، وتأثيراته المدمرة على الحياة والاقتصاد والمجتمعات، وتهديده للحضارة البشرية، وطرق الوقاية منه...الخ، بحيث لم يبق شيء لم يُذكر، حتى صرنا كل ما نقرأه هو مكرر ولا جديد تحت الشمس، كما يقولون.
لذلك أحاول في هذا المقال التركيز على أمرين إيجابيين لهذا الوباء، وفق مقولة (رب ضارة نافعة). فلكل شيء جانب مشرق ومظلم، ويبدو أن وباء كورونا له جوانب إيجابية أيضاً، فالخير لا يعرف إلا بالشر، والخير والشر ساقا التقدم. إن جائحة كورونا يمكن اعتبارها ثورة الطبيعة التصحيحية لما سببه الإنسان من أضرار كبيرة بحق البيئة، وبدوافع المنافع الشخصية والأنانية وقصر النظر. وكذلك عززت العولمة، وأكدت حاجة البشرية لها، ونبذ العصبيات والتخندقات العنصرية والدينية والطائفية والمناطقية، بل وساهمت في تأكيد حتمية العولمة.
كورونا كثورة الطبيعة التصحيحية
الملاحظ أنه كلما تحل كارثة طبيعية مثل الزلازل والأعاصير، أو من صنع البشر مثل الحروب، ينبرى بعض المؤمنين بالأديان ليدَّعوا أنها عقاب من الله على البشر بسبب ابتعادهم عن الدين، وانغماسهم بالملذات ... الخ. ووباء كورونا هو الآخر استغله البعض واعتبروه عقابأً من الله بسبب معاصينا الكثيرة وابتعادنا عن الدين.
فلو كانت العقوبات هذه موجهة ضد المجرمين والمسيئين فقط دون غيرهم، لهان الأمر، وكان بالإمكان تصديقهم، ولكن أغلب ضحايا هذه الكوارث هم من الأبرياء، بل وحتى من المتدينين انفسهم، لذلك فهؤلاء يسيئون إلى الله والأديان، إذ يصورون الله بصفات بشرية في الغضب والانتقام، وإظهاره كدكتاتور ذي مزاجية متطيرة ومتقلبة، سريع الغضب، ينتقم من مخالفيه وغير مخالفيه دون تمييز، بينما الحقيقة ليست كذلك، فالله لا يمكن تشبيهه بالبشر، إذ ليس كمثله شيء، لأنه كما يوصف في الكتب المقدسة، أنه غير مادي، وكلي الوجود، والقدرة، والعلم، والعدالة وغيرها من الصفات الهية الشمولية المطلقة.
ولكن يمكن أن نقول أن وباء كورونا هو رد فعل الطبيعة على نشاطات البشر ضد البيئة. فهناك مقولة يونانية قديمة تفيد أن (الطبيعة لا تعمل شيئاً عبثاً) (Nature does nothing in vain). يعني أن كل ما تعمله الطبيعة فيه صالح على المدى البعيد، وهو عبارة عن تصحيح الأخطاء المتراكمة في الطبيعة.
فطوال عشرات السنين حذر العلماء حكومات العالم من مغبة التمادي والإمعان في تدمير البيئة بسبب ضخ كميات هائلة من المحروقات وعوادم المَركبات، وحرق الغابات، وتسميم مياه البحار...الخ، مما أدى إلى ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجو، والذي بدوره أدى إلى ارتفاع درجة الحرارة وتغيير المناخ وتقلباته على وتيرة سريعة لم تعرف من قبل، وبالتالي ذوبان الثلوج التدريجي في القطبين، وارتفاع منسوب البحار بحيث عما قريب ستختفي الكثير من الجزر، والمدن الساحلية، إضافة إلى تلوث الهواء والمياه بالسموم الضارة بصحة الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات وتسبب الكثير من الأمراض لها.
وقد أكد العلماء في مؤتمراتهم حول البيئة، على الحكومات بوضع ضوابط على المحروقات، وتبني الوسائل الحديثة في الاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة ، مثل الرياح، والطاقة الشمسية، والأمواج البحرية، والشلالات والأنهر وغيرها، بدلاً من الاعتماد على حرق الوقود الصلبة والسائلة والغازية، ولكن بلا جدوى. والجدير بالذكر أن أمريكا التي نسبة سكانها نحو 5% من سكان العالم، تساهم بنسبة 30% في تلويث البيئة. ويصر الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، وبدوافع اقتصادية وشعبوية ديماغوجية، أن ارتفاع الـ CO2 والحرارة، وتغيير المناخ ليس من نتاج النشاط البشري، بل من نتاج الطبيعة، وأنه اتجاه طبيعي (natural trend). ولذلك خرج من اتفاقية باريس الخاصة بحماية البيئة. وهذا إجرام بحق البشرية والطبيعة.
كذلك أود التوكيد، وكما صرح به العديد من العلماء، يجب أن نتحرر من نظرية المؤامرة التي تقول أن فيروس كورونا الجديد (Covid-19)، هو من صنع البشر في مختبرات إحدى الدول الكبرى لشن حروب اقتصادية... أمريكا ضد الصين أو الصين ضد أمريكا. إذ نادراً ما نجد عالماً يحترم سمعته يقول أن هذا الفيروس من صنع البشر كسلاح بيولوجي، لإلحاق الأذى بالخصم. إن هذا الفيروس هو نتيجة طفرة وراثية من نفس فيروس السارس في الطبيعة، لأن هكذا سلاح خطير لا يقدم على إنتاجه إي عالم عاقل، لأنه يعرف أن هكذا سلاح سيخرج من السيطرة، وينقلب السحر على الساحر، وبالتالي يكون وبالاً على كل البشرية بمن فيهم صانعو الفيروس.
فهذا الفايروس لا يميز بين الصديق والعدو، ولا الفقير والغني، ولا دول فقيرة أو غنية، ولا بين الحاكم والمحكوم، فهذا هو رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون قد أدخل مساء يوم الإثنين المصادف (6 نيسان/أبريل الجاري)، في قسم العناية المركزة في إحدى مستشفيات لندن بسبب تدهور صحته نتيجة إصابته بمرض كورونا.
ونتيجة لخطورة هذا الوباء سارعت منظمة الصحة الدولية، وأغلب الحكومات في العالم، منذ الأيام الأولى من إعلانه في الصين، باتخاذ إجراءات صارمة مثل منع التجول، والعزل الاختياري والإجباري، والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين بانتظام، وتجنب المصافحة و غيره كثير من الاجراءات الوقائية الصحية لاحتواء هذا الفيروس، وتشجيع الناس بالقيام بوظائفهم من بيوتهم، بل وحتى أعضاء حكومات قاموا بإدارة شؤون دولهم عبر تكنولوجيا التواصل. هذه الاجراءات نجحت فعلاً وأدت إلى احتواء الفيروس والحد من انتشاره، بدليل أن الصين التي بدأ منها الوباء نجحت في إيقافه والتخلص منه، ومن الممكن أن يتم الخلاص منه بهذه الاجراءات في العالم قريباً كما تم القضاء على وباء الجدري قبل عشرات السنين.
والجدير بالذكر، أن هناك نتائج غير مقصودة ظهرت من هذه الاجراءات الوقائية ضد كورونا، أهمها نظافة الهواء من التلوث وهبوط كبير في نسبة الـ CO2 في الجو، إذ أفادت الأنباء إلى أن نسبة الكربون في مدينة نيويورك قد هبطت إلى نصف ما كانت عليه قبل تفشي وباء كورونا وذلك بسبب توقف أغلب وسائط النقل. وهذا يؤكد دور النشاط البشري في تلوث البيئة وأضراره على الصحة. لا شك أن الكثير من هذه الاجراءات ستستمر حتى بعد التخلص من وباء كورنا، مثل ممارسة العمل في المساكن، ومواصلة عادة غسل اليدين بانتظام، والاهتمام بالصحة، والتقليل من التنقل، واستخدام وسائل النقل ما يؤدي إلى تخفيض حرق الوقود..الخ. وهذه النتائج الإيجابية هي من العواقب غير المقصودة التي هي في صالح البشرية.
وباء كورونا تعزيز للعولمة
من نافلة القول أن عالمنا اليوم، وبفضل التقدم المذهل في تكنولوجيا الاتصال والتواصل، صار قرية كونية صغيرة، حيث صارت مصالح الشعوب متداخلة ومترابطة لا فكاك بينها، فالمشكلة الوطنية مثل الإرهاب والأوبئة والكوارث الطبيعية، صارت مشاكل دولية وليس بإمكان أية دولة مواجهتها لوحدها، وهذه جائحة كورونا تؤكد أممية المشاكل وعولمتها، وعجز حتى الدول الكبرى في مواجهتها بدون تضافر الجهود مع الدول الأخرى، قويها وضعيفها، صغيرها وكبيرها بدون استثناء، وبقيادة الأمم المتحدة. وهذا مما يعزز دور الأمم المتحدة والعولمة، لا إضعافها كما يدَّعي البعض. والجدير بالذكر أني كتبت مقالاً مطولا في حلقتين في عام 2007، بعنوان (العولمة حتمية تاريخية)، أكدتُ فيه حتمية العولمة وفائدتها للبشرية على المدى المتوسط والبعيد، وقد جاء وباء كورونا ليؤكد هذا الاتجاه بأجلى ما يمكن.(1 و2)
خلاصة القول، أن فيروس كورونا ليس من صنع البشر في المختبرات كسلاح بيايولوجي في الحروب الاقتصادية كما يزعم البعض من المهووسين بنظرية المؤامرة، بل هو تحول بيولوجي طبيعي من التغيير في سلالة فيروس السارس الموجودة سابقاً، ويمكن التخلص منه عن طريق الاجراءات التي اقترحها الخبراء، و فرضتها الحكومات، مثل العزل، والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين، وتقوية المناعة بممارسة الرياضة، وتناول الغذاء المتنوع والمتوازن...الخ، ولا بد أن العلماء سينجحون في إيجاد لقاح له قريباً.
كذلك سيترك هذا الوباء جوانب إيجابية في حياة البشر ستبقى إلى أمد بعيد، وخاصة العمل في المنزل، وهذا مما يقلل من استخدام وسائط النقل و تلويث البيئة، وارتفاع سخونة المناح، وعواقبه الضارة بصحة الإنسان والحيوان والطبيعة. لذلك يمكن القول أن جائحة كورونا هي ثورة الطبيعة التصحيحية. راجع مقال: (كيف ستتغير عاداتنا بسبب العزلة التي فرضها فيروس كورونا؟ )(3). وكذلك يعزز جور العولمة والتقارب والتعاون بين الشعوب في مواجهة الأزمات.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- د. عبد الخالق حسين: العولمة حتمية تاريخية (1-2)
http://www.akhbaar.org/home/2007/11/38957.html
2- د. عبد الخالق حسين: العولمة حتمية تاريخية (2-2) http://www.akhbaar.org/home/2007/11/39014.html
3- كيف ستتغير عاداتنا بسبب العزلة التي فرضها فيروس كورونا؟
https://www.bbc.com/arabic/magazine-52064143
4- يوفال نوح هراري: العالم ما بعد كورونا
Yuval Noah Harari: the world after coronavirus
https://www.ft.com/content/19d90308-6858-11ea-a3c9-1fe6fedcca75
5- خمسة أسباب تجعلك أكثر تفاؤلا رغم تفشي وباء كورونا
https://www.bbc.com/arabic/magazine-52079350