-١-
التزمت بالبيت مثل ملايين المصريين العقلاء، وذلك أفضل من البقاء فى المستشفى أو فى صورة داخل برواز معلق على حائط!
البقاء فى البيت ليس مملاً كما يتصور البعض، ولكنه فرصة كما يقول كامى «للجلوس مع الذات». وفى غمار الحياة اليومية العادية قلما نواجه أنفسنا، والأدق أننا نهرب من المواجهة لأسباب مختلفة لعل أهمها رؤية عيوبنا فى المرآة! وكلنا بلا استثناء نتجمل حسب مقتضيات الحال. والبقاء فى البيت حسب قواعد منظمة الصحة العالمية يعطى فرصة للفيروس أن يرحل. فهو يهوى الإقامة فى الجسد البشرى، وقد صارت المدن الكبرى أشباحاً يا ولدى، وحط على الكون سكون غريب ومريب، فلم يحدث أن صمتت حركة الحياة بهذه الصورة إلا فى وجود هذا الوباء الذى لم نعرف بعد أصله وفصله، وهل هو حشرة أم غاز هائم فى الهواء؟! لكن الثابت أنه كشف عن ضآلة الإنسان وكيف أنه كائن ضعيف! لقد حصد الوباء مئات الألوف، ومن أهم دروسه: تتطاحنون بالأسلحة الفتاكة والجيوش والمعدات فى مشهد صاخب، أما أنا فلا أحب الأصوات العالية أو هدير المدافع، صناعتى محاطة بصمت بالغ هو الأقرب لصمت القبور!
البقاء فى البيت يتفق مع سلوك هادئ على مهل كما يرى كارل أوفوريه، مؤلف «فى مديح البطء»، وهو حراك عالمى يتحدى عبادة السرعة!
أنت تشرب فنجان قهوتك ببطء وتتناول إفطارك ببطء، فلا شىء يستفز السرعة لديك. وهكذا أنا بيتوتى قبل الكورونا. وليست «الإقامة الجبرية» بجديدة علىَّ. فلست من هواة الخروج دون مبرر قوى. ولست من هواة المقاهى ومطاعم المدينة، لكنى من هواة السفر، ومنذ أغلقت الدول مطاراتها، شعرت باغتيال حرية الفرد. فالسفر طاقة هواء جديد وبشر وعادات مختلفة. لكن ما جرى فى أوروبا من ضحايا الوباء بالموت يجعل الإنسان يشك فى أن هذا ليس «العالم الأول» الذى حلمنا به. فقد رسب العالم الأول فى امتحان الكورونا وحصل على أصفار!!
-٢-
كان توفيق الحكيم يقول: اليوم الذى أصحو من نومى بعد ساعات من راحة العقل بنوم عميق وأقضى حاجتى وأجلس فى مقعدى وأشرب الشاى باللبن، وأقرأ صحف الصباح وأرشف الشاى بهدوء وأتذوقه وأبلع بيسر وسهولة هو «يوم ميلاد جديد» لى! هكذا يحدثنا الحكيم عن تفاصيل حياتية صغيرة قد لا نلتفت لها ولكن حين يطالها العطب تغدو مؤلمة لكنها «نعم الله غير المرئية» يمنحها الله لنا وتستوجب الشكر.
كوب الشاى على مهل، وكنت أشتاق لإفطار يخلو من عنصر السرعة، والموبايل مغلق حتى إشعار آخر. ولست بحاجة إلى ارتداء ملابسى، فالإقامة الجبرية بإرادتى لا تجعلنى أتكلف وإن حرصت على حلاقة ذقنى ببطء بعد أن كنت أحلق ذقنى وأرشف الشاى وأطالع مانشيتات الصحف فى آن واحد! ثم كنت أنظر فى أجندتى، وهى بالمناسبة سكرتيرتى، وأحصى التزامات اليوم الجديد. الآن- فى إقامتى الجبرية- لا التزامات تفرض خروجى إلا فى القليل النادر، ولهذا عندى ثلاث وسائل لقضاء الوقت الطويل. كتب مؤجلة قراءتها وأجد الفرصة سانحة للقراءة بالنظارة الطبية. والتليفزيون لمتابعة أخبار الوباء لعلى أكتشف بصيصاً من الأمل فى رحيل الفيروس والعودة للحياة الطبيعية. وثالث المتع هو «ماسبيرو زمان» ثم اليوتيوب الذى أعتبره مرجعية مرئية وتاريخا بالصورة لأمة. وكثيراً ما أشاهد حوارات كنت ضيف المذيعات ويروق لى إعادة «الفرجة» مثل راغدة شلهوب وريهام سعيد وبسمة وهبة. وأنا لا أغادر البيت مضطراً إلا كل أربعاء حيث الالتزام الأدبى لكلام مفيد ضمن «آخر النهار» مع الأستاذ تامر أمين الذى يجمعنى به التناغم الشخصى والمهنى، وأحمل «تصريحاً» بالمرور وسط حظر التجوال المفروض. وفى كثير من الأحيان تروق لى شاشة الموبايل فأرى عليها ابنتى حنان صوتا وصورة وأتابع أخبارها. وقد أقضى وقتاً أتحاور فيه مع أصدقاء أو صديقات فى دول أخرى ولم تمنع الكورونا أن نتواصل عبر الفيس تايم صوتا وصورة! وكل نصف ساعة أرش على كفى بعضاً من قطرات بارفانات أستخدمها فى حياتى عادة وأفضلها على الكحول ٧٠٪ الذى يُباع فى الصيدليات. ولا أرتدى جوانتى أبيض إلا إذا زرت مريضاً بالكورونا ولن يحدث لأنى لن أخالطه. لا أضع كمامة على أنفى فى البيت. فما مبررها وأنا لست فى مستشفى به إصابات. لكنى لا أنسى رشة عطر على كل الأزرار ومقابض الغرف والدواليب وأغسل يدى بالصابون وأحاول أن أقلع عن عادة تلازمنى هى أصابعى فوق وجهى لأنظف عينى، حيث إنى لا أستخدم القطرة مثلما كان يستخدمها بكثافة د. أسامة الباز.
-٣-
التكنولوجيا ساعدتنا فى هذا «الحبس اللاإرادى» فى البيوت، فإذا اشتقت لأحد هاتفته عبر «الإيمو»، وهى خاصية فى الآى باد تخفف كثيراً عدم الرؤية. ذلك ما أفعله حين يأتى المساء. فقد أُجرى مع أقاربى فى كندا حوارات عن الأحوال عبر «الفيس تايم»، أو أتواصل مع أصدقاء لا أراهم بأمر الكورونا! وفى ساعات النهار أجد الفرصة سانحة للكتابة للصحف التى التزمت بالكتابة فيها. والكتابة «تبلع» الوقت، فلا أكاد أبدأ وأشرع فى التفكير حتى يأتى موعد الغداء وهو الثانية والنصف الذى تعودت أن أنام بعده ساعة قيلولة تعيد النشاط لى عصر اليوم. ولأن الوقت براح أعيد ترتيب مكتبتى المكتظة بالأوراق وأتخلص من أوراق لا لزوم لها، وقد أعيد ترتيب ديكور غرفة مكتبى لكن فيروز تصدح طوال اليوم وتمنحنى طاقة إيجابية بصوتها. ولست من هواة التفتيش فى الفيس بوك أو الانستجرام ولا أسجل على الموبايل أى تويتات ولكنى أتابع الواتس آب لأنه الأسرع فى الرسائل! وقد اعتدت أن أكتب رسائل، لكنى وجدت فى الرسائل الصوتية صيغة أسهل وأعمق. هناك «مخلوق» آخر يعيش معى فى البيت وهو نباتات تباشرها مديرة البيت وترويها بانتظام، وقد بدأت ألتفت للنباتات وأشعر أنها انتشت لاهتمامى بالماء والهواء! إنها نباتات ظل لا تهوى الشهرة وتتواضع فى الظل! وأنا قانع بالبقاء فى البيت ليس لأن مائة إعلامى وممثل وممثلة وشخصيات عامة كرروا عبارة خليك فى البيت، إنما عن قناعة أن «الاختلاط بالآخرين» هذه الأيام غير آمن.
-٤-
ومرة أخرى..
التزمت بالبيت مثل ملايين المصريين العقلاء، وذلك أفضل من البقاء فى المستشفى أو فى صورة داخل برواز معلق على حائط!
نقلا عن المصرى اليوم