عرفت الصديق العزيز جورج سيدهم منتصف سبعينيات القرن الماضى، كانت فرقة الثلاثى وقتها فى عز مجدها الجماهيرى عندما قدمت مسرحية «أهلا يا دكتور» التى امتدت لأكثر من خمس سنوات، تعمقت صداقتى بجورج بعد ذلك عن طريق شقيقه أمير سيدهم مدير فرقة الثلاثى، وخاله الذى كنا نناديه بلقب «البلابيشى»، كان خاله مستأجرا لبوفيه المسرح فى تلك الفترة، وكانت له هيبة ألاحظها فى تعامل أمير وجورج معه، كنت أرى جورج وهو يجلس أمامه كما الطفل الوديع يستمع لنصائحه عندما تكون هناك مشكلة تتعلق بالعائلة سواء بالقاهرة أو سوهاج ومطلوب من جورج ان يتدخل فيها، من هذه المواقف كنت اشعر أن جورج الفنان ذائع الشهرة والصيت ما هو إلا طفل كبير يحمل فى قلبه البراءة والطيبة، كان يستمع باهتمام واحترام لخاله وبعد ان يستوعب الموضوع ويلم بالمشكلة يرد بعبارة موجزة يقول فيها «يا خال».
مفيش داعى للمشاكل، اللى قابل على نفسه اللى ملوش حق فيه يشيل، وان كان على حقوقى نحلها بهدوء»، الخال ينفعل من طيبة جورج التى كان يعتبرها سذاجة وكذلك شقيقه أمير الذى يتسم بالحدة والانفعال، لم يكن برودا من جورج، بل رجاحة عقل تعكس ما فى داخله من نقاء يجعله يتجاوز الدخول فى مشاكل تولد أى كراهية، كان جورج وقتها يسكن فى شقة ببناية فى مواجهة المتحف المصرى بميدان التحرير، كان عازفا عن الزواج وله عالمه الخاص الذى يتسم بالنقاء والبعد عن الرذيلة رغم كم المعجبات اللواتى كن يطاردنه فى المسرح والهاتف وأماكن التصوير التى يتواجد بها، كان جورج يحصن نفسه ضد هذه المغريات بما يحمله فى داخله من إيمان عميق يجعله مواظبا على الظهور فى المناسبات الدينية السنوية بالكنيسة، والحرص على حضور القداسات الاسبوعية، وعدم التخلف عن مواعيد الصوم التى كان يرتبط بها ارتباطا شديدا، كل هذه القيم انعكست على سلوكه وتصرفاته مع الآخرين، لكنه لم يكن يعرف روح التعصب البغيضة، إذ كان حريصا على صوم شهر رمضان الكريم وبسط موائد الافطار فى بيته أو فى المسرح لأصدقائه من الوسط الفنى وكل صغير وكبير بفرقة الثلاثى، وعند حلول عيد الفطر المبارك تكون علب الكعك قد وصلت لبيت أصدقائه وبقية افراد الفرقة، وفى عيد الأضحى المبارك كان يحرص على تكليف شقيقه أمير سيدهم بشراء عجل لذبحه أمام المسرح وتوزيعه على فقراء منطقة السبتية التى يقع بها مسرح «الهوسابير»، كان جورج فى هذه الفترة مضربا عن الزواج ويعيش بمفرده فى تلك الشقة، التى لا يدخلها إلا من يقوم بتنظيفها ومن يعد له الطعام، وكان جورج بارعا فى صنع الأكلات التى يصنعها بنفسه ويدعو أصدقاءه ومحبيه عليها، الشيء الوحيد الذى كان يزعج جورج فى هذه الشقة الضوضاء التى لا تنقطع من كلاكسات السيارات والباصات التى تمر فى ميدان التحرير فقام بعمل طبقة عازلة لحوائط الغرف المطلة على الميدان،على غرار الطبقة العازلة باستديوهات التسجيلات الصوتية. بحكم اقترابى اليومى من شقيقه امير سيدهم اكتشفت أن جورج الإنسان لم يكن مسئولا عن أى شيء فى حياته اليومية، كل ما عليه أن يمثل فى المسرح والسينما والتليفزيون فقط لا غير أما بقية متطلبات حياته فقد سلمها لشقيقه أمير، فهو الذى يحضر له خزين البيت من متطلبات وطعام، وهو الذى يحاسب المكوجى، ويدفع قسط السيارة والكهرباء والغاز وهو الذى يتذكر موعد تجديد رخصة القيادة ورخصة السيارة، ما يطلبه جورج يقوم شقيقه أمير بتنفيذه، جورج سلم نفسه بالكامل لشقيقه أمير، وظل الحال على ما هو عليه إلى أن قرر جورج الخروج من شرنقة العزوبية والارتباط بالصيدلانية « ليندا » التى تعرف عليها فى مناسبة عائلية، وكان جورج وقتها قد تجاوز الخمسين من عمره.
وكالمعتاد تولى شقيقه أمير تنظيم حفل الزفاف، من حيث اختيار الكنيسة التى سيقام فيها قداس الزواج، والفندق الذى سيقام به حفل الزفاف، وتوجيه الدعوات للفنانين والفنانات والاقارب، واختيار المطربين والمطربات الذين يحيون الحفل الذى امتد حتى الفجر، بنهاية هذه الليلة أصبحت هناك زوجة مسئولة عن شئون جورج سيدهم، انتقلت الوكالة من شقيقه إلى زوجته، وظل أمير مسئولا فقط عن الرعاية المتكاملة لجورج فى الجانب الفنى وشئون إدارة الفرقة، جاء جورج سيدهم بشقيقه أمير سيدهم ليتولى إدارة الفرقة، وفى المقابل جاء سمير غانم بشقيقه سيد غانم ليتولى ادارة حسابات الفرقة، وبحكم ترتيب الوظائف كان أمير سيدهم هو المدير الفعلى للفرقة والمتصرف فى كل شئونها ويخضع لإدارته سيد غانم مدير الحسابات، أعتقد أن هذا الوضع شكل لسمير غانم جزءا من الحساسية الشديدة عندما كان شقيقه سيد يشكو له من بعض تصرفات أمير سيدهم التى لا ترضيه أو يرضى عنها، لكن الأمور كانت تسير ولا يشعر أحد بما يدور فى الكواليس، وكنت اتابع ذلك عن قرب بحكم صداقتى القوية بأمير سيدهم وسيد غانم فى نفس الوقت، وكنت أتوقع تفجر الموقف فى أى وقت ولكن دهاء وذكاء أمير سيدهم كان يجعله يحتوى أى موقف، ولكنه لم يدرك حجم الترسبات التى تتراكم من وراء ذلك، فجأة أصيب سيد غانم بالفشل الكلوى، وظل يتردد على المستشفيات والمصحات التى أرهقت سمير ماديا عندما تلقى شقيقه العلاج بالولايات المتحدة، وبوفاة شقيقه اتخذ سمير قرار الانفصال عن جورج والفرقة، وللأمانة لم يكن لجورج الطيب المسالم الجميل اى دخل فيما جرى لشقيق سمير، ولم يكن يود أن ينفصل عن سمير لكى تبقى الفرقة ولا يحدث لها اهتزازات تؤثر عليها، تحمل جورج نصيب سمير فى الفرقة، وتأثر جورج بما كان يكتب فى الصحف عن ضياع توقع الفشل للفرقة بعد خروج سمير منها، مما جعله يبادر بتقديم مسرحية «حب فى التخشيبة» مع دلال عبد العزيز لكى يثبت وجوده وقدرته على الاستمرار بالفرقة، ولم تحقق المسرحية النجاح الجماهيرى الذى كان ينتظره جورج، ثم قدم مسرحية «المصيدة» لأجاثا كريستى التى اتفق مع التليفزيون على تصويرها وتسويقها لكى لا يغلق المسرح ابوابه، خاصة انه يتحمل مصاريف الفرقة بمفرده، أراد أن يؤمن لنفسه مصدرا آخر فافتتح مطعما للمأكولات بمدينة نصر أنفق على ديكوراته الكثير، ولكنه لم يتفرغ له وكان لديه إصرار شديد على أن يبقى اسم فرقة الثلاثى وفاء منه للفرقة التى كانت سببا فى شهرته ونجوميته مع سمير والضيف أحمد، جورج الطيب كان قد عمل توكيل عام لشقيقه أمير الذى يدير شئون الفرقة وشئونه الخاصة، فجأة علم جورج أن الفرقة مدينة للصحف مقابل الاعلانات، ضخامة الديون جعلت جورج يهتز من داخله، وفكر فى تعويض الخسارة بتصوير عدد من المسرحيات لشركة انتاج، وصور منها مسرحيتين ودون سابق إنذار اختفى شقيقه أمير وعلم جورج انه هاجر إلى امريكا وفى جعبته ثمن بيع المسرحيتين واشياء اخرى مما كان يدخره جورج للزمن، الصدمة كانت قوية على القديس الطيب الذى لم يكن يتوقع أى غدر أو طعنة من اقرب الناس إليه، الحزن المكتوم اصابه بجلطة أثرت تأثيرا كبيرا على نصف خلايا المخ وأدت لشلل جعله لا يتحرك من الفراش، وبدأ رحلة العذاب مع المرض، رحلة اليأس والأمل فى الشفاء بالعلاج الذى طال لسنوات وقفت خلالها زوجته الملائكية إلى جواره بصبر ووفاء ومحبة يندر ان تتكرر، إلى ان اسلم الروح وسافر إلى السماء فى اليوم العالمى للمسرح الذى عشقه وذاب فيه بكل خلجات روحه ودمه.
من كتاب «نجوم البهجة»