د. نادر نور الدين محمد
يبدو أن هناك تغيرات كبيرة فى السياسات الزراعية وفى أسعار بورصات الغذاء ستشهدها الأسواق العالمية وربما تصل إلى أزمة غذاء عالمية'> أزمة غذاء عالمية جديدة ترتفع فيها الأسعار عاليا كما حدث فى أزمتى الغذاء فى عامى 2008 و2010. فقد أعدمت كينيا وتنزانيا وإثيوبيا وتونس والعديد من الدول كميات كبيرة من الزهور والنباتات العطرية المعدة للتصدير إلى الأسواق الأوروبية بسبب إيقاف استيرادها بسبب كورونا، كما اضطر مزارعو وتجار الأغذية الأورجانيك المخصصة للتصدير إلى أوروبا وأمريكا إلى طرحها فى الأسواق المحلية بالأسعار المنخفضة للسلع التقليدية بسبب توقف تصديرها متسببا فى خسائر كبيرة بالإضافة إلى سرعة تلف هذه المنتجات بسبب حظر استخدام المبيدات معها لمنع سرعة تلفها أثناء التخزين. أيضا قيام بعض الدول بفرض حظر مؤقت أو دائم على تصديرها لبعض السلع الاستراتيجية مثل القمح التى حظرت كازاخستان تصديره والأرز لحظره من الهند وفيتنام ومحاصيل الزيوت من ماليزيا وإندونيسيا وقد ينتقل الحظر إلى دول أخرى، كما قد يستغل المضاربون بالبورصات العالمية الأمر فى رفع الأسعار والوصول بها إلى مستويات أسعار أزمتى الغذاء العالميتين السابقتين حين وصل الأرز إلى ألف دولار للطن (مقارنة بسعر 350 دولارا حاليا) والقمح إلى 470 دولارا (220 دولارا حاليا) رغم توافر السلع وزيادة الإنتاج العالمى وتسجيله أرقاما قياسية هذا العام فى إنتاج القمح والأرز تفوق احتياجات العالم بنحو 40%، ولكن البورصات العالمية لها مستغلوها ومجرموها.
المشكلة هذه المرة أن الدخل العام والناتج المحلى للدول المستوردة للغذاء ومنها مصر سوف ينخفض وبشدة بسبب تراجع التصدير والاستيراد والجمارك والسياحة وتحويلات المغتربين والإنتاج الصناعى للورش والخدمى وإعفاءات البعض من فواتير بعض الخدمات المنزلية بسبب تقلص ساعات العمل وزيادة البطالة وتراجع الدخول وغيرها من الأمور وبالتالى ستكون مجابهة هذه التغيرات موجعة للغاية ومكلفة للاقتصاديات الوطنية ورصيد العملات الأجنبية، بالإضافة إلى أعباء الحماية الاجتماعية للمتضررين من العمالة المؤقتة وأصحاب المحال والورش الصغيرة وغيرهم، وإن كان تراجع أسعار البترول سيقلل جزئيا من هذه الأعباء.
القدر كان رحيما بمصر إلى حد كبير حيث يبدأ موسم حصاد القمح والفول والعدس فى نهايات إبريل بما يوفر لمصر مخزونا لستة أشهر من القمح وشهرين من الفول تتوازن خلالها البورصات العالمية وتعود إلى سابقتها. أيضا تبدأ زراعات الموسم الصيفى فى شهر مايو القادم بعد شهر واحد من الآن والتى ينبغى فيه إحلال كل زراعات الزهور والنباتات العطرية والأورجانيك بالحاصلات الاقتصادية الاستراتيجية من الذرة الصفراء للأعلاف ومحاصيل الزيوت البذرية لعباد الشمس وفول الصويا ودراسة الموارد المائية المتاحة بدقة ودون انحياز والتى يمكن معها زراعة أقصى مساحة ممكنة من الأرز والمتوقع تضاعف أسعاره عالميا خلال الفترة القادمة مع عدم إتاحته للتصدير بما سيرفع من أسعاره محليا ومؤثرا على ارتفاع أسعار الأرز المحلى.
فالذرة الصفراء للأعلاف تمثل نحو 70% من مكونات الأعلاف الحيوانية والداجنة والسمكية وبلغت وارداتنا منها فى العام الماضى نحو 8.6 مليون طن، كما أن محصول فول الصويا يعطى زيتا ويستفاد من الكسبة الناتجة عن العصير فى تصنيع الأعلاف الجافة كمركز للبروتين حيث يمثل نحو 20% من مكونات الأعلاف بالإضافة إلى مساهمته مع محصول عباد الشمس فى توفير قدر كبير من الأمن الغذائى لزيوت الطعام والتى نستوردها كاملة من الخارج بينما الموسم الصيفى فى مصر خال تماما إلا من القطن المتراجع والأرز ويسمح بزراعة ليس أقل من خمسة ملايين فدان بالذرة الصفراء وعباد الشمس وفول الصويا وتحقيق طفرة إنتاجية وشبه اكتفاء ذاتى من ذرة الأعلاف وزيوت الغذاء.
الأزمة الحالية أوضحت أن الاعتماد على الزراعات التصديرية مخاطرة كبيرة لأنها مرتبطة بظروف الدول المستوردة وفرضها العديد من القيود عليها ثم الأوبئة العالمية ومضاربات البورصات العالمية ومن الأفضل للدول النامية المستوردة للغذاء أن تتجه إلى زراعات الاكتفاء الذاتى من الأغذية الأساسية والاستراتيجية التى تقلل من وارداتها للغذاء ومن استنزافها لرصيدها من العملات الأجنبية أثناء الأزمات التى يتراجع معها أرصدتها بل وتستنزف جزءا كبيرا من رصيد العملات الأجنبية فى الدولة.
لم نفلح فى زيادة المساحات المزروعة بالفول البلدى رغم الطفرة الكبيرة فى أسعاره محليا وتجاوزه 30 جنيها للكيلو جرام ولا فى العدس الذى كنا إحدى كبرى ثلاث دول فى زراعته وأصبحنا نستورده كاملا، وانهارت زراعات القطن طويل التيلة بسبب عدم إلمامنا بتغيرات الأسواق العالمية للمنسوجات نحو الملابس الكاجوال التى يرتديها الفقراء والأغنياء وإصرارنا على زراعة قطن لا نصنعه ونصنع قطنا لا نزرعة. المرحلة الحالية تتطلب إعادة رسم السياسات الزراعية المصرية والعربية ووضع خطط لإنتاج الغذاء تحت ظروف الشح المائى والاحترار العالمى والحصول على محصول أكثر من مياه أقل، والاعتماد على زراعات الحاصلات الأساسية للفجوة الغذائية المصرية وتقليل الاعتماد على زراعات التصدير مؤقتا، مع مراجعة الموارد المائية اللازمة لزراعات الأرز للأصناف الجديدة المتأقلمة مع الجفاف والعطش وذرة الأعلاف وحاصلات الزيوت والفول والعدس.
* الأستاذ بكلية الزراعة ج القاهرة ومستشار وزير التموين