سحر الجعارة
أغلقت ستائر الحزن، وأعلنت العزلة.. جمعت نفس الأشباح التى تشاركها ساعات الحظر الطويلة، وعانقت الأسئلة المتكررة!.
بطل «العشق المستحيل» الذى تاه فى رحلة الطموح، «وجه أمها» يعاتب خصلات مشيب نثرتها الوحدة فوق جبينها، ملامح «شاب» قلبه «ثائر»، أحبته وربته ثم حملته «الاستقلالية» بعيداً عن أحضانها!.
وكأنها جلسة تحضير أرواح، يغلفها الصمت.. وحدها تتقن «لغة الصمت» تعرف مصدرها وتأثيرها فى الوجدان، الصمت يشعرها بالأمان.. لكن فى خلفية المشهد ضجيج يحمل رائحة الموت، رسائل محملة بالتحذيرات وأرقام متسلسلة لأعداد ضحايا فيروس «كورونا» الجائحة.. وهى تستدعى ضيوفها كل ليلة، ربما تقتلهم بالكتابة أو تبعثهم للحياة حباً ويأساً!.
وكأن «الحظر» يتحدى «الغياب»، أو أن «الوحدة» تحرضها على الصمود.. إنها لا تتقن لغة الموت، رغم أن المرض فقرة رئيسية فى قاموس حياتها، وفى كل مرة كانت تفتته إلى حروفه الأولى وتعلم أنه سيصل إلى ذروته الدرامية.. ثم ينكسر على إرادتها الصلبة.. وتنتصر!.
لم تشعر يوماً أن المرض «عقاب إلهى» أو أنها «مذنبة» عليها أن تتطهر بدمائها وتنزف ألف مرة لتنزع قرار الحياة من قبرها المزين بالورود.. المعد لاستقبالها!.
فى كل مرة «بمقاييس العلم» كانت تواجه كارثة، وترتدى «حلة معقمة» كمن يرتدى بدلة الإعدام الحمراء، تقرأ حكم الإعدام وتكتب وصيتها وتصلى ركعتين ثم تسلم روحها للخالق، وبداخلها «يقين ما» بأنها سترتد لجسدها!.
إلا هذه المرة فالعالم كله يواجه معها فيروس «كورونا» الجائحة، لكنها لا تزال تمتلك ذات اليقين بأنها ستنجو.. وأنها لن تعانى مرارة «الفقد» ثانية، لن ترتدى ثوب الحداد ولن تصافح ملاك الموت.. كانت هذه الفكرة تتملكها فى عالم يرتعد خوفاً ويفر من بعضه البعض هرباً من «العدوى»!.
لم تكن طمأنينة الغافل فهى تعلم جيداً خطورة الجائحة التى تختطف الأرواح وتسرق الأنفاس قبل أن تتأوه، لكنها لم تعتد الاستسلام لحالة الذعر والهلع.. بداخلها إيمان أن «عشق الحياة» هو سر بقائها.
لم تسمح للحظر أن يبتلعها لتغرق فى دوامة «الدجل الدينى»، ولا أن يسرقها من عالم الأحياء لتدخل الموت الإكلينيكى بفقدان وعيها.. إن عقلها «أعز ما تملك».. إنه كنزها الخفى الذى ترجم الحضور الإلهى فى الرحمة واللطف.. نعم أحياناً تسخط علينا «الطبيعة» وتقصفنا بأسلحتها البيولوجية لأننا حرمناها من أن تتنفس.. إنها الآن تثأر لنفسها.. تسطر سجل الوفيات بنصل حاد لم ندرك مغزاه حين كفر السنة الشيعة وأخرجوهم من الملة وأغاروا عليهم فى حرب مفتوحة «اليمن وسوريا» نموذجاً!.
الوباء لا يحصد الأرواح من «خانة الديانة»، ولا يعترف بالتمييز على أساس العرق أو الدين أو النوع.. فربما يذهب ضحيته من نصب من نفسه «مندوب العناية الإلهية» ويبقى البهائى الذى أحرقنا منزله، والمسيحى الذى هجرناه وقتل بعضهم «على الهوية»!.
هل هذا أوان استدعاء الحروب الطائفية والصراعات المذهبية؟.. ولمَ لا!.
نعم أتذكر الآن الحظر الذى عشته على هامش ثورة 25 يناير، وقتها كان «الموت صدفة» ينتظرنى، (وأنا أتصور أنى آمنة فى منزلى)، واقعة حقيقية، نشرتها آنذاك تحت عنوان «شاهدة عيان».. حيث كنت أقف فى شرفة منزلى المطلة على الحرس الجمهورى.. وذهلت مما أرى: (شباب يشتبكون مع جنود أمن مركزى، وآخرون يحطمون السيارات، وحالة فزع تعم الشارع «الهادئ سابقاً».. بعد أن أُصيب بعض جمهور «استاد القاهرة» بجنون جعله يتبول على أفراد الأمن، فى إحدى المباريات، فإذا بالأمن يعاقبنا بملاحقة الجمهور ولو باقتحام البيوت الآمنة بحثاً عنهم؟.. وقبل أن أفيق من ذهولى، إذا بطلق نارى يمر بمحاذاة رأسى، لا أدرى من أطلقه ولا من أين!).
اتصلت بالإعلامية «لميس الحديدى» وقتها فى برنامج «هنا العاصمة»، ثم كانت الواقعة محل تحقيق فى إدارة التفتيش بوزارة الداخلية وأدليت بأقوالى فيها.
لكن ملاك الموت -آنذاك- تركنى «فى مفترق طرق» لأتأمل مغزى الحياة، أو لأدرك أن الوجود كله مرهون بلحظة جنون، أو بخطأ سياسى يجعل الفاشية الدينية تحكم فتنشر مليشياتها الفوضى، أو تسقط جدران وطنك تحت أقدام تنظيمات إرهابية: «داعش».
إذن، فلنحسب ضحايا الفاشية الدينية والحروب الأهلية وشهداء التنظيمات الإرهابية، (كل هؤلاء سقطوا باسم الدفاع عن الدين!)، وفى المقابل احسب ضحايا الفيروس الجائحة «كورونا».. ستكتشف أن «تسييس الدين» صناعة دموية وأن أصحاب التوكيلات الحصرية لله على أرضه الذين يتحكمون فى خلقه قد استلوا سيوفهم المسمومة وقصفوا رؤوساً «لم يحن وقت قطافها»!.
استرجع مشاهد النعوش العائدة من العراق، والذاهبة من العراق إلى أمريكا، ستكتشف خدعة «الفوضى الخلاقة» ونشر الديمقراطية بحروب همجية.
الطبيعة أرفق بنا من أنفسنا.. أحن على الإنسان من همجيتنا، نعم تحاصرنا بشراسة وتهددنا بفيروس مجهول لنعلم أننا وظفنا كل قدراتنا فى الاتجاه الخطأ.. وأن البشرية التى احترفت «صناعة الموت» لم تسع يوماً لخلق منظومة «حياة آمنة»!.
فحين تخنقك دانتيلا الحظر السوداء لا بد أن تهرب منها إلى «شرنقة التفاؤل»، أن تواجه نفسك فى المرآة وتطرح كل «الأسئلة المحرمة».. وأن تجيب بنفسك حين تسمع صوت الأذان الجريح «ألا صلوا فى رحالكم»: لقد حولتموها إلى منابر تكفير للآخر.. وحين ترى الكعبة المشرفة ترد المصلين والمعتمرين تدرك أن الله موجود.. نعم فى هذا الحيز الضيق، تحت الحظر أو فى العزل، لأنه بداخلك «كما تعبده وحدك».
نقلا عن الوطن