سحر الجعارة
لم يكن غريبا أن تنتقل الحياة بأكملها من أرض الواقع إلى «العالم الإفتراضى»، وكأننا فى ساعات «الحظر» نهرب من الموت إليه، نتقصى أخبار الوباء العالمى «كورونا»، ونتأمل تساوى الرؤوس وخضوعها أمام جلال الموت «من الأمير إلى الغفير».. نتابع التظاهرات المناهضة لكورونا والأئمة الذين رفضوا- من قبل- تعليق صلاة الجماعة، والإمبراطوريات الاقتصادية «التى تنهار» وحركة الشلل التى أصابت العالم.. تلك التى يخترقها شباب يتعامل مع الفيروس بـ «الألش» أو عمامة تترنح بالدعاء لـ «رفع البلاء».. الأمهات المذعورات على أطفالهن، والأطفال الذين خرجوا إلى «البلاج» للاستمتاع بمنهج قاتل للإجازة.. وحكام العالم الحائرون المرتبكون.. كل هؤلاء فى مشهد عبثى.. بدون ترتيب ولا أسبقية لمشهد على الآخر ولا لمنصب على الآخر.. كل هؤلاء مجرد مشاهد متقاطعة يرصدها «عداد الموت» الذى يحصى ضحايا كورونا وأعداد الوفيات فى كل دول العالم.. إنه الوجه الحقيقى للعالم اليوم!.
العالم اليوم فقد عقله، فقد سيطرته على أدواته، ويمكن أن تلخصه بكلمة واحدة: «العجز».. لقد سقطت «نظرية المؤامرة» فى تفسير التفشى العالمى للكورونا الوباء الجائحة.. فجيوش العالم أجمع التى تنافست على المركز الأول فى التسليح، وسجلت أسبقيتها فى سجل تخليق «سلاح بيولوجى» يقضى على البشرية، وأقامت حروبا دبلوماسية وعكسرية للصراع حول امتلاك «الأسلحة النووية».. والدول العظمى التى احتلت الدول التعيسة «العربية تحديدا» بزعم امتلاك «أسلحة كيماوية».. كل هؤلاء من صناع الفوضى فى العالم لم يفلحوا فى الوصول إلى تفسير علمى للظهور المفاجئ لفيروس غامض افترس البشرية بوحشية وسرعة عجيبة.. فلم تمنعه تأشيرة عبور ولم يوقفه قرار «فيتو»!.
العالم الآن يتم إعادة صياغته، وفقا لمنهج بيريسترويكا كورونا- إن جاز التعبير- تتبدل ملامحه ليتحول إلى «عالم رقمى» يتضاءل فيه العامل البشرى، ويحل «التباعد الاجتماعى» مكان احتكاك الثقافات، يعيد ترتيب أجندة أولوياته ليصبح «البحث العلمى» أهم من سباق التسليح، وتصبح القوى العظمى لمن يمتلك «براءة الاختراع» للقاح أو تكنولوجيا تتيح التواصل «بدون لمس»!.
سوف يعاد تشكيل النخبة- كما أتوقع- بحيث يصبح العلماء والأطباء ورجال القوات المسلحة والشرطة هم «كريمة المجتمع» بدلا من الأثرياء ونجوم الفن والرياضة وغيرهم، فلا يمكن لدولة أن تحظر التجوال دون جيش يحمى الحدود أو معمل أبحاث علمية وغرفة عناية مركزية تفك «الحظر» الذى تضبطه الشرطة.. أما بعض الأثرياء «بكل أطيافهم» فقد يتخبطون طويلا فى أزمة اقتصادية يعانى منها العالم الآن.
سوف يكون «الإعلام» الذى يتحرى الموضوعية ويكشف الحقيقة أحد العناصر المهمة وسوف يطرد من الساحة «الإعلام المضلل» الذى انكشف زيفه مثلا فى «تركيا وإيران».. كما أن العالم الرقمى يقوم بالإساس على حرية «تداول المعلومات» والشفافية المطلقة.. لكن فى القلب من هذا سوف تشكل الشائعات «جائحة» أخرى لأن الحروب والصراعات سوف تنتقل من الحدود الدولية إلى المنصات الإلكترونية.
سوف نسمع الكثير والكثير من التحليلات العلمية والاقتصادية، بينما تتراجع من المشهد مصطلحات «خبير إستراتيجى أو رجل دين».. سيعود مصطلح «البقاء للأصلح» إلى الحياة وتندثر عبارة «البقاء للأتقى» فسوف يسقط الكهنوت الدينى الذى هيمن على دول كثيرة وتصبح العلاقة بين الإنسان وربه علاقة «شديدة الخصوصية».. سوف تنقل «أسرار البشرية» من ثقافة «الاعتراف» إلى ثقافة «الوعى الصحى».. أتصور أن مجاذيب المعجزات الوهمية لا ينتظرون «معجزة بيولوجية»، كالتى بشرت بها العالمة البيولوجية، «أنشا بارانوفا»،أستاذة الأحياء البيولوجية فى GMU School of Systems Biology فى الولايات المتحدة الأمريكية، معجزة تقضى على وباء كورونا، كأن يسيطر الطقس الحار لفترات طويلة أو أن يضعف الفيروس فجأة خلال انتقاله من إنسان لآخر.. فمعظم الدراويش لا يعترفون إلا بالإعجاز العلمى للقرآن، ومعجزات فك المربوط وجلب الغائب.. ولنضع فى الحسبان أن العامل الاقتصادى كان وسيظل يتحكم فى حركة هؤلاء.. وهم خارج العالم الرقمى الذى لا يعترف بالجهلاء أو المغيبين.. ويمكن أن تعتبر أن «الشائعة والخرافة» فيروسات مرحلة ما بعد «كورونا». كانت هذه قراءة فى كف الغيب، ومحاولة لتصور مفاهيم وآليات العصر القادم، فى ضوء المؤشرات الحالية.
نقلا عن المصرى اليوم