فاطمة ناعوت
سافرَ إلى السماء، وترك لنا ابتسامتَه. هى ذاتُها الابتسامةُ الآسرةُ كما عرفناها وسجّلتها الكاميرات؛ وكأن الزمانَ لا يمرّ. بصَفوها وعذوبتِها وطفولتها؛ وكأن المحنَ لم تَنَل من هذا الجسد الواهن. ازداد الوجهُ جمالاً، مع تلك الهالة الملائكية التى تُكلّلُ هاماتِنا مع الكِبَر. وربما مع الإيمان بأن يدَ الله حانيةٌ تمتد بالرغد والسلام، مثلما تسمحُ بالمرض والاختبار. لكن الحتمى أن تلك الابتسامة السابحةَ على وجه «جورج سيدهم»، وذاك الاطمئنانَ المغروس فى ملامحه، يعودان إلى الزوجة الاستثنائية التى منحها اللهُ له، هدية سماويةً عظمى تفوق كنوز الأرض.
فى بيتهما الجميل، يجلسُ «جورج» على مقعد وثير يجاور تمثال كبير للسيدة العذراء، عليها السلام، تمدُّ يدها البيضاءَ صوب قلبه الأبيض. يجاوره مقعدٌ آخر بالكاد تجلس عليه زوجته الجميلة «ليندا». فهى أغلبَ الوقت تُحوّم فى الدار مثل عصفور لا يعرف الكسلَ ولا الخمول. هى الدكتورة الصيدلانية «ليندا مكرم»، رفيقةُ حياة «جورج سيدهم»، التى شاركته سنوات تألقه على خشبات المسرح، ثم حملت معه محنةَ مرضه ربع قرن، رافضةً أن يحمل معها التبعةَ الشاقّةَ أحدٌ سواها. فهى الحبيبةُ والزوجةُ والأمُّ والابنة والشقيقة والصديقة، وهى الأهلُ والسندُ والأصدقاءُ، وهى الصخرةُ التى ارتكن إليها «جورج» حين تهالك ساقطًا فى غيبوبة المرض سنواتٍ طوال، فكانت الحضنَ والسَّكن والدواء، ثم توكأ عليها رويدًا رويدًا، حتى اشتدّ عودُه ووقف على قدميه من جديد، وعادت مياه الحياة تسرى فى شرايينه، بعد يبوس. قصةٌ طويلة وهائلة تضيقُ عن سردها كتبٌ وقصائدُ وملاحمُ عشق. هى تجسيدٌ حرفى وجلى لمقولة سليمان الحكيم: «امرأةٌ فاضلة، مَن يجدها؟ لأن، ثمنَها يفوقُ اللآلئ» لهذا؛ حين أهديتُ جورج أحد كتبى: «صانع الفرح»، كتبتُ على صفحته الأولى هذا الإهداء: «طوبى لكَ يا جورج، فها أنتَ قد وجدتَها».
منحنى القدرُ بهجةَ أن أحتفل معهما بعيد ميلاده الأخير العام الماضى. كان حفلاً دافئًا بفيوض المحبة والفرح. وكان «جورج» فى كامل أناقته، يشرقُ بابتسامته الوادعة التى عشقناها. صحتُه الجسدية والنفسية كانت فى أفضل حال بفضل رعاية الزوجة الاستثنائية التى تصنعُ معه كلَّ يوم معجزةً جديدةً، على مدى خمسة وعشرين عامًا، منذ أقعده المرضُ. الصيدلانيةُ الجميلة تركت عملَها وتفرّغت لرفقة زوجها، كما ترافقُ أمٌّ وليدَها، الذى لا يعرفُ فى العالم سواها، ولا يقوى على الحياة دون الاتّكاء عليها. طافت به العالمَ، راقدًا على سريره، شرقًا وغربًا بحثًا عن العلاج. وحدها دون معين إلا الَله الذى لا يُطلَبُ معه آخرُ. لم تلجأ إلى نقابة، ولا صديق. بل حملت، بكل رضًا وفرح، جبلَ المحنة وحدها، وكانت أهلا لها. منحها اللهُ صبرًا جميلا وبأسَ جيوش باسلة وفرحًا ملائكيًّا بأداء الرسالة. واللهُ لا يُضيعُ أجرَ من أحسن عملا. نهض «جورج سيدهم» من سريره بعد سنوات رقاد، واستطاع بفضل جهدها الأسطورى أن يجلس ويتكلم ويُحرّك أطرافه التى يبُست سنوات. عادت للجميل ابتسامتُه التى أسرت قلوبنا سنواتٍ وأجيالا، ولم تفارقه حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
صديقتى الجميلة «ليندا». أعزّيكِ يا صندوق اللآلئ، وأهنئكِ لأنك أتممتِ رسالتك على النحو الأجمل والأكمل، حتى سافر حبيبُك وحبيبُنا إلى السماء، ملءَ قلبه فرحٌ ورضا وشكرٌ لله على نعمته الكبرى: أنتِ، ومحبة الناس. فأى محظوظٍ هو بكِ يا ليندا. اسمُكِ على مسمّى: Linda بالإسبانية تعنى: «الجميلة»، وLenda بالبرتغالية تعنى «الأسطورة». وأنت بالحقّ أسطورةٌ جميلة، ونموذجٌ نتعلّم منه معنى الحب ومعنى التضحية ومعنى المسؤولية، ومعنى التحضّر، ومعنى الإيثار.
فى ديوانى الأخير أهديتُكِ قصيدةً عنوانها: (يفوق اللآلئ)، كتبتُها على لسان جورج. اسمعى منها هذا المقطع بصوته:
(نعم يا حبيبتى/ أنا الجميلُ بكِ/ أنا المرْضِى عنه بوجودكِ/ إلى جوارى/ تُحوِّمين فى أرجاءِ البيتْ/ مثل عصفورةٍ تطيرُ من غصنٍ إلى أيكةٍ/ تجمعُ القمحَ والشعيرَ/ لتُطعمَ صغارَها الضِعافَ/ وتعلمهم الطيرانَ والشدوَ/ أنا الآن صغيرُكِ/ يا صغيرتى/ فكيف لا أكونُ بألفِ خير؟!/ لا يُعوزُنى شىءٌ/ مادمتِ حولى/... لا تعاتبى الرفاقَ الذين ينسون/ فالناسُ تنسى الصامتين/ ولا تعاتبى صمتى/ فصمتى صلاةٌ/ لم تعدْ بى رغبةٌ فى كلامِ اللسان/ فاستبدلتُ به همسَ القلبِ/ الذى لا تسمعين/ فى مخدعى كلَّ ليلةٍ/ قبل صلاةِ النومْ/ أهمسُ: أيها الملكُ سليمان/ أنا وجدتُها/ وجدتُها/ المرأةَ التى ثمنُها يفوقُ اللآلئ).
مع السلامة يا «جورج»، ستظلُّ حيًّا لأن «صُنّاعَ الفرح» خالدون. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم