كتب : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
يبدو أن الدراما في مصر المحروسة بكل أشكالها، وعبر كل العصور قد اعتبرها البعض " كلمة السر " في عكس صورة أحوال مجتمعاتنا .. إن كان ذلك في أزمنة الاستقرار الوهمي المرضي ، أو حتى في مراحل تحقيق الإنجازات الوطنية ..وسواء في عهود نجاح تللك الفنون الدرامية وازدهارها ، أو في حال ترديها وتراجع رسالتها..
في مثل هذه الأيام عام 1955أي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان نشر في مجلة " المصور " تحقيقا موسعا عن مشاكل الجامعات المصرية ، وتحت عنوان فرعي " غادروا المدرج ليسمعواالمسلسل الإذاعي سمارة ! " و قد روي أحد أساتذة كلية الحقوق في جامعة القاهرة أنه كان يحاضر في أكثر من مائتين من طلبته بعد الظهر ، فإذا بهم يذوبون في غمضة عين .. ولا يبقي منهم أكثر من ثلاثين ، وكانت حجة المنصرفين ، أنهم ذهبوا ليستمعوا إلي الحلقة الأخيرة من رواية " سمارة " في الراديو ( سمارة مسلسل إذاعي شهير بطولة الفنانة القديرة سميحة أيوب وكان يذاع في الخامسة والربع علي البرنامج العام في منتصف الخمسينات من القرن الماضي ) ..
ويستطرد الأستاذ الدكتور لمحرر المجلة صارخا في وجهه وهو يسأل من المسئول عن هذا التخاذل في روح الجامعة ؟ .. ثم يرد مجيبا أيضا في ضيق وتبرم وغيظ إنها سياسة فتح الأبواب علي المصراعين ..اللعنة علي تلك الدراما التي أصابت روح الجامعة في مقتل .... والغريب أن طلاب الجامعات في تلك الآونة وكما هو ظاهر في الصور المصاحبة للتحقيق الصحفي كانوا يتميزون بمظهر غاية في الاحترام والوقار والالتزام والجدية حيث معظمهم يرتدي الملابس الأنيقة الكاملة وشعورهم مصفوفة في اتساق متزن تغطيها طبقات كثيفة من الفازلين اللامع حتي لا يخرج في نشاز شكلي بعضها عن أصول الانضباط قبل أن يظهر معجون " الجيل " الملعون الذي حول رؤوس شباب جامعاتنا الآن إلي رؤوس قنافذ شديدة الفوضوية للاتساق مع نظرية الست كوندي التي بشرتنا بفكر الفوضي الخلاقة والمجنونة ..ويضيف الأستاذ الذي استشعر الإهانة ، بل وهزيمة العمل الأكاديمي والجامعي أمام سحر الدراما الملعونة قائلا : إن الجامعة يجب أن تبقي لأمثال هؤلاء الثلاثين الذين مكثوا في أماكنهم في المدرج .. ولم يذهبوا لسماع دراما " سمارة ".. الجامعة يجب أن تكون للحريصين عليها .. المتفرغين لها ، الذين سعوا إليها لوجه العلم ، لا لوجه الشهادة ثم الوظيفة .. الجامعة يجب أن تكون للمتفوقين وحدهم .. والمجانية أيضا للمتفوقين وحدهم .. إن طالب الطب يكلف الدولة مائة جنيه في كل عام ، لا يدفع منها غير ثلاثين ( في منتصف الخمسينات من القرن الماضي ) ، فيجب أن يؤدي المائة كاملة إذا لم يكن حريصا علي التفوق ..
أما رئيس الجامعة د. كامل مرسي فيقول للمحرر إنه لا يجب إقفال باب المجانية أمام فريق من الطلاب قد تنزل به كوارث طارئة .. أما وكيله فيذكر أن عدم التفوق قد يكون مرجعه إلي الفقر ، ويقول أكاديمي آخر في حسم و عنجهية أن مهمة الجامعة هي في النهاية مهمة علمية لا خيرية ..
لقد حدث في مطلع الألفية الثالثة ، وبالتحديد في نهايات الزمن المباركي أن أصبحت مدارسنا وأيضا جامعاتنا طاردة رغم أن الدراما لم تعد هي الأخري جاذبة ، فإن قيادات جامعاتنا وبتحفيز رائع من وزراء الحزب الوطني ومن تعاقبوا بالجلوس على كرسي الوزارة في الحقب الأخيرة أن حسموا الأمر ، ولم يعد فيما بينهم هذا الجدل حول تكافؤ الفرص ، فقد قرروا ألا تكون في حساباتهم مصالح أبناء الفقراء أو المتفوقين ، وليبقي أصحاب البشرة البيضاء أولاد الناس ( اللي همه ) هم أصحاب الحق وحدهم في التعليم المتميز لتبيض وجه الجامعات ، فكان إنشاء البرامج المتميزة بعشرات الآلاف من الجنيهات والتوسع في إنشائها ، والتدريس بالإنجليزية والفرنسية والتعليم المفتوح والانتساب الموجه ، وغيرها من أشكال ممارسة البيزنس جهارًا في جامعاتنا الحكومية ، ولتذهب شعارات التوسع في الإتاحة ومنخ الفرص التعليمية المتميزة بعدل ، ورعاية ذوي الاحتياجات المادية من أبناء الكادحين والفقراء في الأرياف والعشوائيات إلي ما تبغي أن تذهب مهما اختلت قواعد الدراما وأصول حبكاتها الحراقة الحريفة فإن دراما التعليم و حكاوي جامعاتنا هي الأقوي تأثيرا في حياة الناس ..
سامح الله الدراما والدراميين في كل عصر وأوان بعد أن كشفوا ستر الجامعات التي يعد حالها صورة صارخة لدراما المتاعب الواقعية الكلاسيكية ، وصدق كاتبنا الصحفي الراحل " لبيب السباعي " عندما أشار إلي أن النتائج المريرة والمؤلمة للبرامج الجديدة والمتميزة قد بدأت تتفجر بصورة مؤسفة وأنها سوف تؤدي مع استمرارها إلي شحن نفوس الطلاب بالكراهية وتعزيز مشاعرالمعاناة من التفاوت الطبقي بين طلاب الكلية الواحدة .. وأضيف لا عزاء للواقفين في طوابير مكتب التنسيق !