محمد حسين يونس
في كلية الهندسة .. قسم عمارة .. درسنا تاريخ الفنون .. مع تاريخ العمارة .. و فلسفة الجمال .. و لقد أثارت هذة الدراسات لدى الرغبة .. في إستكمالها .. من مراجع عدة .. لذلك كنت زائرا مستديما لمكتبة الفن الحديث بقصر هدى شعراوى شارع قصر النيل (في ذلك الزمن )..أطلع هناك علي المراجع و الكتب الخاصة بالفنون عموما و العمارة علي وجه الخصوص .
في المكتبة كان هناك ركن خاص بالإستماع .. تطلب الإسطوانة ثم تجلس تنتظر دورك .... و كان في ذلك الوقت هناك مسلسل جذاب بالإذاعة لفت نظرى مقدمته المأخوذة عن رقصة السيف من بالية (جاينية ) لختشاتوريان.. فكنت أطلبها كلما ذهبت للمكتبة
في هذه الأثناء تعرفت علي المسئول عن الموسيقي .. و نصحني بالإستماع إلي أعمال أخرى غير ختاشاتوريان ..بدأ بالكونشرتو الخامس للبيانو و الأوركسترا لبتهوفن .. ثم باقي أعمالة .. ثم كنشرتو
البيانو لتشيكوفسكى .. و بعده رحمانينوف .. ثم بدأت أنجذب لسماع الموسيقي الكلاسيكية .. فتعرفت علي باخ .. و موتسارت .. و شوبان .. و أصبحت عاشقا لكولارية بتهوفن السيمفونية التاسعة ..و العالم الجديد لديفورجاك .
بمرور الوقت ذهبت لمبني القصر المجاور للمكتبة حيث تعرض في 44 غرفة منه أعمال الفنانين المصريين المحدثين ..من أمثال سيف وانلي و يوسف كامل و عبد الهادى الجزار .. و صبرى راغب و تحية حليم و صلاح طاهر .. و غيرهم ..
كذلك شاهدت بعض الأعمال للنحاتين المصريين المحدثين مثل محمود مختار ( له متحف خاص في حديقة الحرية ) و جمال السجيني و أدم حنين و حسن حشمت .
ثم بدأت أزور المعارض الفنية التي تقدم فنون حديثة ..سواء معرض الربيع .. أو بينالي الأسكندرية لاصبح خلال سنتين .. من الدراسة و الفهم .. ملما بمعني الفن الحديث .
و أفهم أن الأعمال الفنية عموما.. يمكن تصنيفها من حيث الشكل إلي مجموعتين أساسيتين ..
أحدهما هي الحدوته .. ذات البداية و القمة و الخاتمة ... و الأخرى هي اللحن الذى تتأثر به دون أن تجد له معني موحد بين المتلقين .
المجموعة الأولي في الأدب و المسرح و الأغنية و اللوحة و التمثال و الفيلم السينمائي ..معدة للمتلقي السلبي الكسلان ( محدود الثقافة ) الذي ينتظر من المبدع أن يحاكي الطبيعة أو ينقلها له نقلا .. يسقيه الموضوع بالمعلقة .. لا يترك له أى مجال للتفسير المختلف.... أو المشاركة .
في الحالة الثانية يغلب علي الأعمال التجريد و الرمز و ألإبتكار و يصبح المتلقي إيجابيا يشارك المؤلف في حلمه.. و يكمل عمله .. بما يصله من إنطباعات تختلف من فرد لأخر حسب خيالة و ثقافتة ..و قدرته علي الإبداع
وهكذا تعلمت أن فنون الإنسان .. في بداية وعية .. التي حفظتها لنا جدران كهوف أوروبا أو مقابر المصريين القدماء أو الواح طين الأشوريين و البابليين .. لم تكن نقلا عن الطبيعة .. بل كانت من النوع الثاني .. الأقرب للتجريد و الرمز .. و الإنطباع .. منها للحكي و القص و المحاكاة.
و لقد لاحظ أغلب العلماء و الباحثون الذين قرأت لهم .. أن هذا هو حال جميع الأعمال الفنية للشعوب البدائية خصوصا القادمة من إفريقيا و امريكا أو الهند و الصين و جنوب شرق أسيا قبل الغزو الأبيض..
هذه الفنون البدائية كما يقول مؤرخي الفنون تأثر بها رواد الحركة الفنية الحديثة .. من أمثال جوجان .. و فان جوخ .. و جويا .. و بيكاسو ..و موديلياني ..و فجرت لديهم طاقات التمرد علي المألوف .. و كسر القيود الأكاديمية .
المقارنة بين قطع من الفن البدائي الذى أنتجته الشعوب الأولي .. و ما قدمه فنانو القرن العشرين .. ستجده في كتاب هام بعنوان ((Modern and primitive art )) تأليف شارلي وينتينك .. و الناشر عام 1979 أوكسفورد.
و المؤلف يقدم فيه نماذج من إنتاج شعوب بدائية ( للرسم أو النحت أو بعض الفنون التطبيقية مثل الأقمشة أو الحلي أو الفريسك .. أو أدوات المستخدمه في الحرب و السلام .. من سكاكين و رماح .. و دروع) .و مقارنتها بمثيلتها الحديثة
لو كتبت عنوان الكتاب علي جوجل .. سيقدم لك عالما مبهجا جميلا لا تستطيع أن تميز فيه بين ما .. صنعه (شاجال) .. و ما قدمه نظيرة الفنان البدائي .
تطور الفن من الرمز و التجريد البدائي العفوى ..للرمز و التجريد القصدى المعاصر .. رحلة طويلة تستحق التأمل .. ستجدها في كتب تاريخ الفن .. مثل ((Art through the ages)) تأليف هورست ىدى لا كروا .. و ريتشارد تانسي ..و غيرهما
والمؤلفون في هذا المرجع الفني الهام .. يستعرضون التسلسل الزمني للعصور و كيف سلمت الشعوب بعضها بعضا ..مشعل الإبداع و الحضارة .. بدأ من فنون الكهوف ثم العصر الحجرى.. حتي فنون العصر الحديث مرورا بالفن السومرى و الأكادى ، و البابلي و الأشورى و الفارسي ..
ثم المصرى القديم الذى يعتبر الجد الأكبر للحضارة المعاصرة بعد أن نقلتها عنه شعوب بحر إيجة وأسلمتها لليونان و الرومان .. ثم كيف تطور الفن في زمن المسيحية المبكر والعصر البيزنطى وما صاحبها من فنون العصور الوسطي و الفن الرومانسي و القوطي ..
المؤلفون قدموا أيضا لمحات عن فنون الهند و الصين و اليابان ..والسكان الأصليين في أمريكا و جنوب الباسفيك ...
ثم فنون عصر النهضة و الباروك و الركوكو ..داخل إيطاليا و خارجها حتي القرن الثامن عشر ...
بالكتاب تم رصد لتطور الفن المعاصر خلال القرن التاسع عشر و يشمل المرحلة الأكاديمية الكلاسيكية و الفن الرومانسي و الخروج للطبيعة التي قادت للواقعية .
ثم خلال القرن العشرين ظهرت مدارس التأثيرية و التكعيبية والتجريد و الداديزم و السريالية و تأثير المراحل المختلفة هذه علي كل أنواع الفنون .. من رسم للنحت للعمارة للأدب و المسرح و الشعر .. عرض شيق و ممتع لمن يستطيع التواصل بالإنجليزية .
المؤلفون يقدمون بالإضافة للنماذج المعبرة عن العصور .. أهم العوامل الفلسفية التي توضع في الإعتبار عند دراسة الفن
إذ يتطلب إنتاج العمل الفني توفر ثلاثة عناصر هامة .. المضمون ( الهدف )..و الشكل (ستيل ).. و وسيلة التوصيل ( حجر ،خشب معدن ، ورق ، جدران .. قماش ...حلي ..و أنواع مختلفة من الألوان ، وقد يكون الوسيط بشر يقومون بالغناء أو التمثيل أو العزف أو عرض الملابس و الحلي ) ..
الفن الحديث كسر المألوف في العناصر الثلاثة و إستخدم في التعبير وسائط لم يتخيل أبدا الأجداد .. أنها ستكون موضوعا للفن ... خصوصا فيما يتصل بالفنون التطبيقية .
المضمون .. كان من البداية دافعه حيرة الإنسان البدائي للإجابة علي بعض الأسئلة الميتافيزيقية المحيرة .. و التي إستسهالا .. نسميها ( أديان ) ..
أهم هذه الغوامض هي الفرق بين الموت و الحياة .. .. و كيف يتم هذا عن طريق قوى غير منظورة .. تجعل الكائنات المحيطة .. تتحرك و تصارع .. ثم تفني .. و تنتهي
لذلك كان يساعدها بأن يقيم حفلات السحر يرقص و يعزف .. و يغني .. و يصنع الدمي ..والماسكات و يرسم علي جدران كهفة .. الحيوانات كما .. يراها .. ثم يطعنها برمحة .. فيضمن لنفسة صيدا موفقا و إستسلاما من الضحية .... إستمر هذا التناول (السحرى ) .. مسيطرا علي فنون الشرق و مصر . حتي نهاية الحقبة الرومانية المسيحية .. حيث حل الإبداع الديني المتصل بالعقائد الحديثة .. كمصدر أساسي للموضوع .
الكائنات التي رسمها الإنسان البدائي .. شملت البشر بجوار الحيوانات.. و كان بعضها من تأليفة بجمع .. صفات متعددة لحيوانات مختلفة في كائن واحد ( أموت الذى يأكل قلوب البشر أمام ميزان العدالة الأوزيرى .. نموذجا لهذا التعدد ) .. مقابر الأسرة المتوسطة المصرية ..( في بني حسن ).. بها أنواع مختلفة ..لرسومات هذه الحيوانات المخترعة .. يمكن الإطلاع عليها بالفصل المخصص لها بكتاب (بدج ) الهة المصريين ..
الفن المصرى القديم كان له ملامح خاصة ..توارثها الفنانون منذ البداية .. حتي زمن البطالمة عندما بدأ الإختلاط مع الفنون الإغريقية .... (ولهذا قصة أرجو أن أتابعها مع حضراتكم في الأيام القادمة )