منى أبوسنة
عنوان هذا المقال جواب، على هيئة سؤال، عن التساؤل الذى كنت قد أثرته فى مقالى السابق بعنوان «الهُوية بين الدولة والشعب».
بعد عام من تجربة حكم الإخوان للبلاد، اختبر خلاله الشعب تصوره المسبق عن الإخوان، توصل الشعب من خلال التجربة إلى الوعى بعدم صواب تصوره. ومن خلال تراكم التجربة الواقعية تزايد وعى الشعب بضرورة التخلص من هذا الحكم، وقد أفرز هذا التراكم انفجاراً فى الوعى الجمعى الشعبى تجسد فى خروجه بالملايين تعبيراً عن ثورته ضد فكر وسلوك جماعة الإخوان، وقد تجلى ذلك التعبير الثورى فى خروج الشعب بالملايين فى يونيو 2013 استجابةً لدعوة الجيش، متمثلاً فى وزير الدفاع آنذاك الفريق عبدالفتاح السيسى، بمنحه تفويضاً لإنقاذ البلاد من حكم الإخوان الذى كان على وشك القضاء على الجيش ومن بعده الشعب.
ويعتبر خروج الشعب المصرى بالملايين أكبر دليل على رفضه قبول الإخوانية'> الهوية الإخوانية رفضاً قاطعاً. وقد يتساءل البعض: لماذا رفض شعب مصر الإخوانية'> الهوية الإخوانية، على الرغم مما يُعرف عن الشعب المصرى بأنه متدين بطبيعته على حد القول الشائع؟
وللإجابة عن هذا السؤال، أستعين فى فهمى وتحليلى لهذا الموقف بآراء كل من الفيلسوف الإنجليزى جون لوك والمؤرخ أرنولد توينبى. وأبدأ بجون لوك ورسالته فى الحكم التى ينص فيها على أن الحرية حق طبيعى من حقوق الإنسان، أو إن شئت فَقُلْ حق فطرى، لا يمكن لأحد أن ينتزعه أو يفصله عن الإنسان، بوصفه أولاً إنساناً وثانياً مواطناً، أما توينبى فى نظريته عن «التحدى والاستجابة» فيقرر أنه عندما تتعرض الحضارة لأزمة تهددها بالتفكك والانهيار، فإن الإنقاذ مرهون بما يسميه «الطاقة الحيوية المبدعة» لدى الأفراد والجماعات. ويقصد توينبى بـ«الطاقة الحيوية المبدعة» الشعور الداخلى بضرورة إنقاذ الحضارة، كما يتجسد فى وعى الأفراد والجماعات، ويمثل هذا الوعى ما يسميه توينبى فى نظريته عن «التحدى والاستجابة» السمة الإبداعية للاستجابة للتحدى. وفى حالة الشعب المصرى، فإن التحدى كان يتمثل فى استيلاء جماعة الإخوان على حياة المصريين ومقدراتهم، وإرغامهم على التخلى عن حريتهم الطبيعية وقبول الخضوع لفِكر دينى غريب عليهم ولا يتواءم مع طبيعتهم ولا يتماشى مع هويتهم الوطنية.
وهذا الموقف- إن دلَّ على شىء- فهو يدل على أنه يكمُن لدى الشعب المصرى فى أعماقه وعىٌ بالهوية العلمانية لمجتمعه ودولته، بيد أن هذا الوعى فى حالة عدم وضوح؛ وذلك يستلزم وجود من يزيل هذا الغموض ويخرج الوعى الجماهيرى إلى الوجود الاجتماعى والسياسى، بيد أن ذلك لم يحدث حيث إن الوعى بتلك الضرورة كان غائباً عن أحداث 25 يناير 2011، وذلك لأن النخبة الثقافية والسياسية كانت فى حالة عدم وعى.
والسؤال الآن: من المنوط به تحمُل هذه المسؤولية؟
الإجابة على هذا السؤال تشترط الوعى بأن شعب مصر عندما رفض هوية الإخوان، واختار الهوية العلمانية، فإنه بذلك قد عبَّرَ عن إحساسه بالمسؤولية تجاه مجتمعه ودولته المتمثلة فى الجيش باعتباره الحامى والمحرر من عدوان الإخوان الغاشم. ويشترط هذا الوعى الجماهيرى بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية من يلازمه ويستجيب له، من يملك القدرة على الحفاظ على المجتمع والدولة وضمان استمرار وتواصل تماسكهما، وذلك من خلال العمل على طرح هوية جديدة للدولة، يتطابق معها الشعب وتعبر عن الاستجابة المتبادلة للتحدى المشترك بين الشعب ودولته. وحتى يحدث ذلك، سيظل الشعب فى حالة انتظار لا ينبغى أن تطول، قد تؤدى إلى عودة تنظيم الإخوان إلى السلطة.
وختاماً أتساءل: كيف يتم صياغة هوية جديدة للدولة المصرية تعبر عن توجهاتها سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بحيث تُحدِث تكاملاً بين الدولة والشعب؟
للسؤال جواب، وللحديث بقية.