محمد حسين يونس
عشت طفولتي و صباى .. في شقة بحي السكاكيني مكونه من خمس غرف و صالة و فرندة تطل علي ميدان ناتج من تقاطع شارعي.. سوارس .. مع كنيسة الإتحاد .
لذلك كان مخصصا لي حجرة واسعة ذات سقف مرتفع وأبواب و شبابيك عالية .. و تطل علي أحد الشارعين من خلال بلكونة .. كنت أجلس فيها و أدير الجرامافون اليدوى علي أغاني الست أم كلثوم أو منيرة المهدية أو صالح عبد الحي .. أو عبد الوهاب ..
كان عندى مجموعة من إسطوانات قديمة مرسوم عليها كلب .. يجلس قرب ميكرفون و مكتوب ( صوت سيده) بالإنجليزية ..(( هيز ماستر فويس ))
كنت لا أمل من سماع .. (( خايف يكون .. حبك لية شفقة علية .. و إنت اللي في الدنيا لية .. ضي عنية )) .. أو (( بملي القلل القلل .. في الناحية البحرية لاعبت ضفايرى نسمة العصرية .. و أنا بملي القلل )) ..
كان والدى يمتلك صوتا جميلا .. و يغني عندما يكون في (المود ) أغاني كنت أتخيل إنه مؤلفها .. و لكن يتضح أنها .. من أشهر أغاني عصرة (( رنة خلخالي .. يا أمة .. و أنا نازلة أملي البلاص .. الكل قال إسم اللة .. حتي العزول ألعزول القاسي )) .
و كان لأمي صوت حنين .. و لكنها لم تكن تغني إلا لي ..(( هنا مقص و هنا مقص .. و هنا عرايس بتترص .. و هنا خزانة كبيرة كبيرة .. الخزانة عايزة سلم .. و السلم عند النجار .. و النجار عايز مسمار ... ))حتي أخر الغنوة .. التي تنتهي بمأساة إن الست بياعة اللبن(( قالت الكلام دة ونطت نطتين .. فالزلعة بتاعتها وقعت في الطين .. و خاب أملها .. و رجعت حزين )) .
أمي كانت شديدة الحيوية .. مضيافة .. كتومة .. لذلك تجمع حولها أغلب شابات منزلنا .. و بنات الجيران يودعون لديها أسرارهن .. و تنصحهن .. بود أخت كبيرة .. خبرت الحياة و ما فيها ..
في بعض الأحيان .. كانت واحدة منهن .. تمسك الطبله و تدق عليها .. و الأخريات .. يقمن بالرقص .. و الغناء (( ياليلة بيضا سقف بيتنا نور )) .. و عندما يردن التغليس علي واحدة منهن (( هزيها يا صفيحة الجاز .. يا طويلة من غير بزاز هزيها و لا إطلعي في القمرة و إتشخلعي )) و يضحكن .
أمي كانت لها ضحكة جميلة مميزة .. و لم تكن تحمل هما .. حتي في زمن الكوليرا .. كنت تراها.. نظيفة مرتبة .. و تضع علي الباب و عاء به مطهرات .. و لا تتسامح في أى خطأ .. بحيث مرت الأزمة دون أن تطول عائلتها .
من الراديو الموضوع فوق رف بالصالة ..كان يمكنك أن تستمع لعبد الوهاب .. و هو يشدو(( يا ضفاف النيل باللة و يا خضر الروابي .. هل شهدتن علي النهر شابا غض الإيهاب .. أسمر الجبهة كالخمرة في النورالمذاب )) ..
أو ام كلثوم و هي نغني .. (( حبيبي زى القمر قبل ظهورة يحسبوا المواعيد )) . و الليلة عيد .
و من الحارة التي خلف المنزل .. كانوا في الأفراح ينصبون (صوانا ) و مسرحا تقف علية عدد من العوالم يغنين رقصا ( بنغمة واحدة لا تتغير ) كل الأغاني المعروفة .. و الناس تنقطهم .. لو عزفت الفرقة لهم ( سلام مربع )..
في بعض الأحيان كان البعض يقمن حفلات زار .. و يعزمن الجيران لتظل دقات الدفوف والطبول لا تتوقف ليلا أو نهارا لمدة ثلاثة أيام . و يطلع إن كل ستات الشارع .. عليهن عفاريت ..
البياعين كانوا ينادوا علي بضائعهم بالغناء .. و كنا نحفظ الأنغام (( لا تين و لا عنب زيك يا جميز يا أحلي من التين و العنب )) ... (( الملاح الملاح .. و لا يربي الملاح إلا الملاح )) يقصد الكتاكيت .. أو يطلق بوق ليلم الأطفال حول سلعته .. او (( شكوكو بإزازة )) .. و كنا ننتظر كل منهم خصوصا بياع (الجرانيتا ) .. و(( يا أبو العيال هات لك شيال ..عشرين كحكة بقرش أبيض )).
في رمضان .. و في مواسم موالد السيدة زينب أو سيدنا الحسين .. كانت تقام حول الضريح شوادر المداحين و المغنيين .. و كان بالإمكان أن تستمع إلي ( من فوق شواشي الدرة .. إمرية بتغني ) .. أومداح يحكي عن الرسول .. أو يقص السيرة الهلالية علي الربابة
وسط إحتفالات مميزة ..و حلقات الذكر التي يقوم بها رجال الطرق الصوفية ترى الرجال يتطوحون علي نغمات الدفوف و المزمار و المثلث النحاس ..
و كان الجيران لا يتضررون بل يشاركون .. فيها بحب و حماس ...و يفرقون القرفة و الفول النابت .. و الرز بلبن .. و غيرها من أطعمة النذور . ( نكمل حديثنا غدا )