بقلم : شكري بسطوروس - لوس انجيلوس


يوم السبت 17 مارس 2012 رحل إلى فردوس النعيم تاركاً عالمنا الفاني قداسة البابا شنودة الثالث، رجل قديس يندر ان يجود بمثله الزمان.
شخصية تاريخية بكل مقاييس الكلمة ومعاييرها، احدث تغييراً شاملاً في تعريف كلمة "البابا" من حيث كونه شخصية دينية واجتماعية ووطنية وعالمية، عُرف عنه علمه الغزير ومواهبه المتعددة في شتى المجالات. فلم يعرف تاريخ الكرسي السكندري ان يكون الجالس عليه اديباً وشاعراً وفيلسوفاً وصحفياً ومفكراً ذو اهتمامات متعددة بالشأن العام، كل هذا لم يمنع كونه معلماً دينياُ ورعاً بارعاً، وخطيباً مفوهاً، وعالماً لاهوتياً، وقديساً ناسكاً، واباً ودوداً لجميع اولاده دون تفرقة. ايضاً حباه الله بشخصية كارزمية فكان صاحب سلطان وتاثير في كل من عرفوه او قابلوه لذلك عُرفت عنه قدرته العظيمة على اقناع الاخرين - حتى معارضيه - وكسب ثقتهم وكسبهم لصفه.


كان انساناً روحانياً باراً، اختبر الحياة الباطنية مع الله ووصل إلى اعلي درجاتها لذلك كان خبيراً في طريق الرب. لمس فيه الملايين بساطته وحكمته، محبته وحزمه، وداعته وحسمه، نقاءه الشديد وبصيرته الفائقة. بل لمس فيه الجميع صدق مشاعره ورحابة صدره وسعة علمه و كثرة بذله... فاحبه ووثق به الملايين في مصر وحول العالم، اقباطاً وغير اقباط.
اما في تدبير الكنيسة، فعاش قداسة البابا شنودة بحسب الايات المقدسة: "المدبر فباجتهاد" (رومية 12: 8) اختبر كالقديس بولس كيف تتراكم جداول اعماله يوم بعد يوم إذ لا يكفي الوقت.. "التراكم عليَّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس. من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟" (رسالة كورنثوس الثانية 11: 28، 29) فكان يصل الليل بالنهار لتدبير كنيسة الله التي اقتناها بدمه حتى في اصعب لحظات مرضه الاخير. فشهدت الكرازة المرقسية على يديه نموا واتساعاً لم تعرفه منذ ما يزيد عن 1400 سنه. فصار للكنيسة القبطية الارثوذكسية كنائس في افريقيا وامريكا الجنوبة حيث لا يوجد اقباط اصلاً كما في بوليفيا والعديد من الدول الافريقية حتى صار بحق لقبه "بطريرك الكرازة المرقسية" بعدما كانت الكنيسة قد توقف عن الكرازة لغير ابنائها لمدة 14 قرناً من الزمان.


كان عظيماً في تعليمه، حاراً بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق. فهو من أعظم معلمي الكنيسة على مر العصور وايضاً من اعظم معلمي العالم خلال القرنين 20، 21. كان فريداً في تعليمه، تميز اسلوبه في التعليم بالبساطة والعمق معاً، فكل من يستمع لعظات البابا شنودة الثالث او يقرأ كتبه يختبر سهولتها ولكنه في نفس الوقت يجدها شاملة وعميقة تقود النفس إلى محبة الله والتوبة. انه اسلوب "السهل الممتنع".
 كان البابا شنودة شخصية مملوءة من الايمان الحي وحكمة الروح القدس وقوة الله في مواجهة الشدائد التي كانت بانتظاره منذ اليوم الاول لتوليه سدة الكرسي المرقسي خصوصاً على المستوى السياسي. فكان مثلاً يحتذى في الوقوف مع الحق والدفاع عن الايمان في ثبات وصلابة مهما كانت التحديات.


في سطور قليلة سنستعرض واحدة من هذه التحديات التي واجهته ما أن جلس قداستة على الكرسي البابوي في 14 نوفمبر 1971. لم يكن قد مضى على تولي السادات لحكم مصر اكثر من عام حين اختير الانبا شنودة لكرسي البابوية. منذ بداية عهده، ارتكب السادات خطيئة كبرى مازالت تعاني منها مصر إلى اليوم وهي استغلال الدين في تحقيق مكاسب سياسية، هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى تنفيذ ايدلوجية جماعة الاخوان المسلمين التي ينتمي إليها بتحويل مصر إلى دولة اسلامية. فحاول القضاء على التيارات الشيوعية والاشتراكية والناصرية المعارضة له من خلال اطلاق العنان للجماعات الاسلامية. وكذلك بارتداءه عباءة الاسلام، فسمى نفسه "الرئيس المؤمن" وصرح قائلاً: "أنا رئيس مسلم لدولة اسلامية" وسمى مصر "دولة العلم والايمان"، ثانياً، حاول تطبيق الشريعة الاسلامية باستصدار مجموعة من القوانين التي كان اولها قانون حد الردة الذي يعني ببساطة ان من يرتد عن الاسلام يُقتل. ثالثاً، عمل على طمس الهوية القبطية والقضاء عليها باستخدام آليات وزارات الدولة المختلفة كالإعلام والتعليم والثقافة.

 

رابعاً، تبنى سياسة تهميش الاقباط بحرمانهم من المناصب العليا و منع تعيينهم في الاجهزة السيادية او الحساسة بالاضافة إلى سياسة تجفيف الينابيع اي منع او تقليل دخول الاقباط اصلاً إلى بعض اجهزة الدولة الهامة والمؤثرة كالنيابة العامة وبالتالي القضاء او السلك الجامعي او كلية الشرطة أو الكليات العسكرية. خامساً تغاضي رأس القيادة السياسية عما ترتكبه الجماعات الاسلامية من جرائم طائفية بحق الاقباط .. فلا حساب او عقاب. كل هذا للقضاء على الهوية القبطية وخصائصها الثقافية بهدف إذابتها داخل الاغلبية الاسلامية بحسب ما تراه حركات الاسلام السياسي التي تؤمن انها تمتك الحقيقة المطلقة وتعادي كل من يختلف عنها في الرأي.


وهكذا وجد قداسة البابا نفسه في مواجهة حتمية مع رأس الدولة " الرئيس المؤمن" وتيارات الاسلام السياسي التي صنعها. هنا كان احد هموم قداسة البابا هو التصدي لهذه الحرب الشرسة بالمحافظة على خصوصيات الهوية القبطية دينياً وثقافياً. لذلك أعترضت الكنيسة ممثلة في شخص البابا على قانون الردة لأن الغالبية العظمى ممن يتركون السلام حينها كانوا مسيحيين اعتتنقوا الاسلام لحل مشكلة مالية او عاطفية ثم بعد ان هدأت الامور ارادوا العودة للمسيحية مرة اخرى. وبالطبع لم يصدر قانون الردة إلى الآن. ايضاً نجح قداسة البابا في الحفاظ على الهوية القبطية بكل خصائصها الدينية والثقافية من خلال عدة امور:
•        اولها البناء الروحي والتعليم الديني الذي انتشر بصورة لم يسبق لها مثيل حتى ان الكنائس تقام بها قداسات واجتماعات يومية كما انتشرت الكليات الاكليريكية في العديد من الابراشيات، وفصول اعداد الخدام في كل الكنائس. بالاضافة إلى حركة ترجمة واسعة لاقوال الاباء فضلاً عن المؤلفات الروحية والثقافية ذات المنظور المسيحي في شتى مناحي الحياة.
•        ثانيها الرعاية المكثفة وذلك بتقسيم الابراشيات القديمة لعدة ابراشيات جديدة حتي تضاعف عدة الابراشيات داخل مصر خلال فترة حبريته ثم بتقسيم الخدمة داخل كل ابراشية وتوزيعها على عدد اكبر من الكهنة مما تطلب رسامة كهنة جدد.
•        ثالثها برفع المستوي التعليمي والثقافي للاكليروس من الكهنة والرهبان، فبعد ان كان الكهنوت بالوراثة واغلب الرهبان من غير المتعلمين صار اليوم الغالبية العظمى منهم من حاملي الشهادات العليا.


• رابعها احتضان الكنيسة لابناءها خوفاً عليهم من الضياع بعد أن طردتهم البيئة المتعصبة المتنامية التي افرزتها تيارات الاسلام السياسي.  فأضطرت الكنيسة لتقديم خدمات ليست من اختصاصها اصلاً، فصار للكنيسة دوراً اجتماعياً وثقافياً ورياضياً وترفيهياً. وتميزت كل هذه الادوار بالروح المسيحية التي بالنهاية عززت الهوية القبطية.
• خامسها اهتمامه بالمهمشين والفقراء والمحتاجين والمرضى بحسب وصايا الكتاب المقدس، ودعوته المتكررة للاساقفة والكهنة للاهتمام بهم.. وفي هذا تُحكى الكثير من القصص ذات المغزى عن عطاءه اللا متناهي لدرجة انه كان يقوم بنفسه بهذا العمل ولا يكتفي بالاشراف عليه. ذات مرة جاءت للجنة البر بالكاتدرائية سيدة شابة تحمل رضيعاً على صدرها. كانت شديدة الشحوب والوهن وكذا رضعيها، هنا بدأ قداسة البابا يسألها عن حالها ومصدر دخل الاسرة ثم اعطاها مبلغاً كبيراً لتشتري به طعاماً واوصاها: "لازم تتغذي" ثم ارسل احدهم بالمفاتيح إلى غرفته في المقر البابوي ليحضر من الرف الفلاني في الدولاب الفلاني علب الفيتامينات الخاصة به واعطاها للسيدة واوصاها ان تأخذها بانتظام ثم بعث باخر لاحضار مجموعة من علب لبن الاطفال واعطاها للسيدة هذا كله بالاضافة لما هو مقررلها شهرياً.


هذه المقاومة السلمية الناجحة لمخططات طمس الهوية القبطية والقضاء عليها اثار حنق السادات وتيارات الاسلام السياسي، فكان قرار عزل البابا واحتجازه في الدير عام 1981 والتي استمر حتي 1985.
أما عن وطنية قداسة البابا، فتؤلف فيها الكتب. فهو القائل: "مصر ليست وطناً نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا".  لقد كان انساناً وطنياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، له مئات المواقف الوطنية في احلك الظروف. وكلنا يذكر رفضه السماح للاقباط بزيارة الاماكن المقدسة بفلسطين كجزء من التطبيع مع اسرائيل بعد اتفاقية كامب ديفيد، إذ رد على رسالة السادات إليه بأن اقباط مصر لن يكونوا خونة الامة العربية. بل كان وطنياً في شجاعة وحكمة اثناء اخطر جرائم حكم مبارك وما بعده. فكلنا يذكر كيف تصرف اثناء احداث الكشح ولما حكمت محكمة النقض ببراءة المتهمين بقتل اكثر من 20 قبطياً قال في عظته الاسبوعية اننا نستأنف الحكم امام المحكمة الالهية. بل كان مانعة صواعق ايضاً ايام جرائم نجع حمادي وفرشوط ومنفلوط والعمرانية وكنيسة القديسين بالاسكندرية ثم امبابة والقائمة تطول. كان يحدث الجموع الحزينة والغاضبة عن المحبة والاحتمال والتسامح وشركة آلام المسيح والعدالة الالهية. بل بعد مذبحة ماسبيرو البشعة التي وقعت في 9 اكتوبر 2011 رفض قداسة البابا رفع قضية دولية ضد مرتكبي مذبحة ماسبيرو من العسكريين واقنع اهالي الشهداء بطلب عدالة السماء بعد ان احتفل بهم وعزاهم وكرم شهداءهم. ايضاً كلنا نذكر يوم حاصر السلفيون الكاتدرائية في العام الماضي من اجل "اختهم كاميليا" وهم يشتمون قداسته بابشع الالفاظ ويدوسون صوره بالاحذية. يومها خصص قداسة البابا عظته في اجتماعه الاسبوعي ذلك الاربعاء ليتحدث عن "الغفران للمسيئين" حقاً كان شخصية وطنية من طراز مسيحي فريد شابه سيده في كل شيء، فكان مدرسة للفضائل.


وهكذا نجد ان قداسة البابا شنودة الثالث كان مثلاً حياً لآيات الكتاب المقدس: "لسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تلام الخدمة. بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله: في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات. في ضربات، في سجون ، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام. في طهارة، في علم، في أناة، في لطف، في الروح القدس، في محبة بلا رياء، في كلام الحق، في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار. بمجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن. كمضلين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن دائما فرحون، كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء. فمنا مفتوح ... قلبنا متسع" (كورنثوس الثانية 6: 3- 11)


كان قداسته عظيماً ايضاً في احتمال المشقات والمحاربات والضيقات سواء على المستوي الشخصي او الكنسي او السياسي. فاحتمل التجارب والالام بصبر وطول اناة منقطعي النظير حتى اخر نسمة، ورغم كل هذا لم تفارقه روح الفرح التي انعم الله عليه بها كثمرة من ثمار الروح القدس، لذلك عُرف عنه روح المرح والدعابة التي تميز بها فكان مصدر ارتياح وعزاء وسرور لكل من يقابله او يراه او يسمعه.
قداسة البابا شنودة الثالث شخصية حققت قول الكتاب المقدس: "كن قدوة للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الروح في الايمان في الطهارة." (تيموثاوس الاولى 4: 12)


هنيئاً لك بالفردوس يا سيدنا... وأقبل اعتذاري عن هذا المقال المتعجل الذي لم يوفيك حقك... صلي لأجلي حتى ألقاك.