أمينة خيري
خيط رفيع لكن عميق يفصل بين الحظر الاختياري والافتراضي. قرار العديد من الشركات ومصالح العمل إبقاء موظفيها في البيت، حيث إما العمل منه أو تخفيض أيام عملهم هو حظر تواجدهم بغرض تطويق انتشار الفيروس. فإن هم التزموا بيوتهم لمعرفتهم وقناعتهم بالقرار، صار الحظر مسؤولية مجتمعية. وإن اعتبروا القرار فسحة وفرصة للخروج وتغييرًا للجو في الشوارع والمقاهي، فإن الحظر هنا يتحول إلى مسخ فكري يستحق الشجب والتنديد.
وحين تتدرج الدول فيما يختص بقرارات الحظر، سواء الجزئي متمثلاً في تعطيل دراسة وتخفيض أعداد موظفين وغيرها، ثم تنتقل إلى مرحلة الحظر الكلي سواء لعدد ساعات محدد أو حظر شامل كامل، فهنا تبزغ الفروق بين الثقافات والسلوكيات والمفاهيم. مفهوم البعض للحظر المفروض؛ لتطويق فيروس لديه القدرة على القتل وكأنه "أف بقى الحكومة بتخنق حركتنا" أو "يووه! مش عايزين حد يقولنا نعمل إيه"، يعبر عن نفسه عبر التواءات والتفافات على القرارات. دخل الناس في مقهى، وأغلق عليهم بابها، واعتبر نفسك فائزًا ناجحًا منتصرًا بالإبقاء على 20 أو 30 أو 70 شخصًا يدخنون الشيشة ويشاهدون التليفزيون ويسعدون ويبتهجون، وربما ينفث أحدهم في وجه الآخرين فيروسًا صغيرًا يكتشفون قدراته فيما بعد. أطفئ نور المحل حتى يمر "الرقيب"، وما إن يعطيك ظهره، عد إلى نشاطاتك واستقبل أقرانك من عديمي الشعور بالمسؤولية تجاه أنفسهم ومن حولهم. وإن لفت أحدهم انتباهك إلى فداحة ما تفعل، اسخر منه، أو رد عليه رد الدراويش ساطع المظهر مخوخ الجوهر. "يا عم، ما حدش بيموت ناقص عمر".
القضاء والقدر من أبرز المفاهيم التي أبقت ملايين المصريين على قيد الحياة، أو حتى هامشها. يقود أحدهم سيارته عكس الاتجاه، فيصدم شخصًا ويقتله، فتجد العبارة الأكثر ترديدًا "عمره! هنتدخل يعني في إرادة ربنا؟!" هو بالطبع عمره، وبالطبع خسئ من يتخيل أنه سيتدخل في إرادة الله. لكن أن تسلم عقلك للسفه، وتخلع القدرة على منطقة الأمور وتحكيم العقول بدلاً من البطون أو القلوب، وتضحك على نفسك بأن الله لو قدر لك أو لمليون واحد حولك أن يموتوا، فسيموتون، ومن ثم لا داعي للتضييق والتزام الحظر الاختياري أو الإجباري، وينتشر فيروسك العشوائي البوهيمي المقزز هذا انتشار "كورونا" في التجمعات المغلقة، فإنك تحتاج علاجًا سلوكيًا وتقويمًا نفسيًا، وقبلهما قبضة حديدية في زمن لا مجال للتهاون والانتظار فيه.
ويكفينا أننا ننتظر أن يخرج أحدهم في مكان ما على الجانب الآخر من الكوكب بعلاج أو لقاح، بعد ما جرفنا مواردنا العملية واجتهدنا اجتهادًا جبارًا للتوسع في بناء دور العبادة، لا سيما تلك التي نستخدمها للدعاء على من يختلفون عنا في خانة الديانة. ويكفي أننا على مدار عقود شيدنا صروحًا عاتية لجمع التبرعات من أجل إطعام ملايين الأسر الفقيرة التي أفتينا لها بحرمانية تنظيم الأسرة، وندعمها ونساندها من أجل توريث مفاهيمها في زواج الأطفال وإنجاب العيال دون هوادة، وإطلاقهم في سوق العمل ليحققوا قروشًا إضافية، وليكونوا هم اليوم همنا الشاغل في كيفية إقناعهم بأن الحظر ضرورة؟! هذه الملايين تعتمد على لقمة عيش تأتي "اليوم بيومه". وأغلب هذه الملايين اكتسبت من الدين مظهره دون جوهره. وأغلب هذه الملايين تعتبر الحظر تقييدًا للحرية وقطعًا للقمة العيش، وهذه حقيقة مؤلمة.
المؤلم أكثر هو أن نرى من يفترض أنهم على قدر أوفر من الوعي والفهم وهم يعتبرون مسألة الحظر مادة للسخرية، أو دافعًا لقدح زناد الفكر من أجل الالتفاف والالتواء. الغرض من هذه السطور ليس بث الرعب، لكن جذب الانتباه لما قد يعتبره البعض حرية شخصية أو التفافًا يعبر عن فهلوة وذكاء، لكنه في حقيقة الحال مهزلة وغباء. وعلى رأي هند صبري في الفيل الأزرق: "لا تخافوا! لكن احظروا"! (بتصرف).
نقلا عن مصراوى