نوال السعداوي
إن الإنسان'> جسد الإنسان (رجلا أو امرأة) وعقله وعواطفه تنطوى على إمكانيات كبيرة مذهلة، لا تنكشف إلا من خلال الأعمال اليومية الخلاقة، والتى قد نراها كل يوم أمام عيوننا، يقوم بها نساء ورجال بسطاء ممنْ نسميهم «عاديين». ذلك أن عملية الخلق أو الإبداع قد ارتبطت فى أذهاننا ووجداننا، بأشكال محدودة اقتصرت على طبقة معينة من الرجال، رفعها النظام الطبقى الأبوى إلى مصاف الآلهة، وأطلق عليهم أسماء عظيمة مثل العباقرة، الموهوبون، غير العاديين. وأسقط الأغلبية الساحقة من النساء والرجال الساعين إلى رزقهم كل يوم، فى بئر العادية والعمل الروتينى الميكانيكى المتكرر، بمثل ما أسقطهم فى ظلام الفقر والجهل والمرض. هذا السقوط الذى أفقدهم الكثير من قدراتهم الجسدية والنفسية والعقلية، وأحدها تلك الفطرة النقية الخلاقة الكامنة فيهم.
إن الإنسان فنان بالطبيعة، ومبدع بالفطرة، وموهبة الخلق ليست حكرا على فئة معينة دون غيرها. والفن الشعبى الذى يغنيه الناس من أساطير وحكايات وسير ذاتية متوارثة وباقية على مر العصور، دليل على أن أجمل الفنون من صنع رجال ونساء عاديين.
رغم أن عملية الكتابة عملية فردية ذاتية، فإن الكاتب أو الكاتبة، تستمد أفكارها من إبداع خيال النساء والرجال والأطفال الذين تعيش وسطهم. وعندما تثور على الكثير من تقاليدهم وعاداتهم، فإنهم هم الذين ألهموها من أفكارهم ومشاعرهم، المنبع الخصب الذى يتجدد دائما.
إن الفن الأدبى أو العلمى، والبحوث العلمية والاكتشافات الطبية التى تفيد البشرية، لا تزدهر ولا تتقدم، إلا باستمرار ارتباطها الوثيق بحياة الناس، والرغبة فى إسعادهم وتقليل قيودهم ومخاوفهم وتهديداتهم. هذا الارتباط هو الذى يحمى الكاتب والكاتبة والعالم والباحثة، من حزن الوحدة واغتراب الانعزال. فأهل الكتابة والعلم والبحث المبدع، مثلما هم حريصون على البعد قليلا عن الناس من أجل التفكير المتعمق، وسماع صوتهم الداخلى، يحرصون على التواصل الدائم بالناس، ليس فقط من أجل التعبير عنهم، ولكن أيضا للعيش بينهم، والاحتكاك المباشر بحياتهم.
إن عملية التفكير المتعمق والتأمل واسترجاع الماضى، تقود الإنسان إلى درجة أعلى من الإحساس. فإذا به يرى شيئا جديدا كان محجوبا، أو يرى شيئا جديدا فى الشىء القديم، أو يكتشف شيئا مدهشا فى الشىء العادى، أو شيئا ملفتا للنظر فى الشىء المتكرر. إن عملية الخلق لا تتم بدون عملية التأمل هذه، حيث يعيش الإنسان الواقع مرة أخرى، لكنه ليس الواقع تماما، إنه القدرة على تخيل الواقع. بمعنى أن الأفكار والتخيلات والتأملات لا تولد خارج الواقع، ولكنها تنبع منه. إنها الواقع فعلا، ولكنها ليست أبجدية النقل الحرفى، بل هى أصعب من مجرد النقل، وأصعب من مجرد الاستغراق فى الخيال. إنها القدرة على إعادة تركيب الواقع، فى شكل جديد ومضمون مختلف، يبدو وكأنه واقع جديد.
إن الحرية الفنية تزداد بازدياد قدرة الفنان أو الفنانة على الإمساك بتفاصيل الواقع، وتجسيدها على نحو أكثر إنسانية، وأقل إيلاما.
إذن الخلق لغة جديدة، والإبداع ثقافة جديدة. وكأنما هناك صوت يأتى من الأعماق يهمس دائما، بأن العقل قادر ومهيأ لرسم صور أخرى أقل قبحا وإيلاما من التى يقدمها الواقع. فإذا بالفنان أو الفنانة تمسك بالقلم وترسم هذه الصور التى تغزو عقلها بشكل تلقائى شبه غريزى. وتصبح عملية التعبير فى هذه اللحظات عملية ضرورية مثل التنفس تماما، ولا حياة لها دون أن تنقل أفكارها خارج عقلها إلى الآخرين.
فى فترات العمر الأولى، تكون الأفكار مثالية، ويتصور الفنان أو الفنانة، أن هناك حقيقة كاملة مطلقة. وبعد مرحلة اليقين تأتى مرحلة الشك وهى مرحلة أكثر نضجا وأكثر إنسانية، ولا يعود المهم هو وجود الكمال المطلق أو عدم وجوده. ولكن المهم هو تلك المحاولة الإنسانية المستمرة للوصول إلى الأفضل. المهم هو ذلك الإخلاص والإبداع اللانهائى للإنسان والحياة، ذلك الطريق المفتوح إلى الأبد، والذى لا ينتهى بالنجاح أو بالفشل أو السجن أو الموت. وقد يكون ذلك سر العذاب الذى يعيشه الإنسان، وسر سعادته أيضا.
حين يكتب الفنان أو الفنانة، لا تعرف لماذا تكتب. إن عملية التعبير عن أفكارها ضرورية لحياتها كإنسانة. لهذا لا تشغلها كثيرا أفكار مثل: الفن للفن، أو الفن الهادف للمجتمع. إن الفن الصادق يخدم الفن ويخدم المجتمع ويخدم الحياة فى آن واحد.
العمل المبدع إذن يتحول من شىء مخلوق، إلى شىء خالق، يؤثر فى الآخرين، ويزيدهم قوة وقدرة ووعيا وإنسانية، ورقة، وحنانا، وتعاونا وبساطة وتواضعا ورفضا للظلم والقبح والتفرقة والتضليل.
الشرط لتحقيق ذلك هو الصدق. وكلمة الصدق هنا تبدو سهلة، لكنها ذلك السهل الممتنع أو السهل الصعب.
الثورة هى النتيجة الطبيعية للعمل الخلاق. والحرية هى ابنة الثورة، وكلتاهما الثورة والحرية يصنعان الشكل والجوهر فى أى عمل مبدع.
قد لا تتحقق الثورة كحركة شعبية تغير الأوضاع فى حياة الناس وأزمانهم. ولكن على الأقل، لقد غُرست البذرة فى الأرض، ولسوف يزدهر النبت، طالما أن الشمس تطلع كل يوم.
نقلا عن المصرى اليوم